انفتاح تركيا على الأكراد.. تكتيك أم سياسة جديدة؟
محمد عباس ناجي
خطوات إيجابية
صعوبات متعددة
ألقت عملية اغتيال ثلاث ناشطات كرديات في باريس -في 10 يناير/كانون الثاني الفائت- مزيداً من الضوء على المفاوضات الجارية في الوقت الحالي بين حكومة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، للوصول إلى تسوية سلمية للمشكلة الكردية التي أسفرت عن مقتل أكثر من 40 ألف تركي وكردي، وكلفت الدولة التركية ما يقرب من 400 مليار دولار خلال ثلاثين عاماً، منذ أن حمل حزب العمال الكردستاني السلاح في عام 1984.
ورغم اختلاف التكهنات حول هوية منفذي هذه العملية، فإن القاسم المشترك فيما بينها تركز حول أن الهدف الأساسي منها هو توجيه ضربة قوية للجهود التفاوضية، وإعادة النزاع إلى مربعه الأول من جديد.
وبالطبع، فإنه لا يمكن فصل التغير الملحوظ في موقف تركيا تجاه حزب العمال الكردستاني -الذي بدا جلياً في إجراء مفاوضات مكثفة قادها رئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان مع زعيم الحزب عبد الله أوجلان في سجن إيمرالي على بحر مرمرة- عن المشهد الإقليمي الذي يتسم بحالة غير مسبوقة من التشابك والتعقيد، أنتجتها الأزمة في سوريا، التي دعمت طموحات الأكراد في الحصول على مكاسب سياسية “تاريخية”، لاسيما بعد سيطرة الحزب الديمقراطي الكردي على بعض مدن الشمال السوري عقب انسحاب الجيش النظامي منها، وفرضت توتراً متصاعداً بين تركيا التي تساعد قوى المعارضة السورية، وكل من إيران والعراق اللذين يدعمان النظام السوري في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرض لها.
ومن هنا يبدو أن سياسة الانفتاح الجديدة التي تتبناها تركيا تجاه المسألة الكردية تبتغي تحقيق أهداف رئيسية أربعة: أولها، تجنب التداعيات السلبية المحتملة لسقوط النظام السوري، لاسيما ما يتعلق بتعزيز جهود أكراد سوريا لإقامة إقليم كردي في شمال سوريا يحظى بحكم ذاتي على غرار إقليم كردستان العراق، وهو ما يمكن أن يفرض ضغوطاً قوية على أنقرة، خصوصاً في ضوء علاقاتها المتوترة مع أكراد سوريا، بسبب صراع المصالح وتناقض المواقف من الأزمة في سوريا.
ومن هنا يمكن القول إن تركيا ترغب في استباق الأحداث واحتواء أية تداعيات سلبية لما يمكن أن تؤول إليه الأزمة في سوريا، من خلال محاولة تقليص حدة الصراع مع حزب العمال الكردستاني وإقناع قادته بإلقاء السلاح، مقابل وعود بعدم الملاحقة وربما الاعتراف بالهوية الكردية.
وثانيها، حرمان بعض القوى الإقليمية من استثمار ورقة الأكراد لفرض ضغوط على أنقرة، لتغيير موقفها من الأزمة في سوريا، خصوصاً إيران التي اتهمتها تركيا -على لسان وزير الداخلية التركي إدريس نعيم شاهين- بتقديم دعم لوجستي لحزب العمال الكردستاني، وتسهيل تحرك عناصره عبر الحدود الإيرانية بحرية أكبر مقارنة بالفترات السابقة.
تصعيد أزمة دعم إيران لحزب العمال الكردستاني في هذا التوقيت له مغزى مهم، فهو يسلط الضوء على التوتر في العلاقات بين الدولتين، على خلفية التباين في التعاطي مع الأزمة السورية، حيث تقف تركيا إلى جانب قوى المعارضة السورية الساعية إلى إسقاط النظام السوري، بينما تدعم إيران الأخير مالياً وتسليحياً لضمان قدرته على البقاء، إلى جانب تصاعد حدة القلق من جانب إيران تجاه قرار حلف شمال الأطلسي (الناتو) نشر صواريخ “باتريوت” على الحدود التركية السورية.
ورغم أن الحلف أعلن أن الهدف من ذلك هو مواجهة أية تهديدات سورية محتملة لتركيا، فإن إيران تعتبر أنها أحد المستهدفين من نشر هذه الأنظمة المتطورة، لاسيما أنها تقلص قدرتها على توجيه ضربات انتقامية لإسرائيل في حالة شنت الأخيرة هجمات عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية.
وثالثها، فرض مزيد من الضغوط على حكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، في ظل تزايد مساحة الخلافات بين أنقرة وبغداد خلال الفترة الأخيرة، بسبب تعمد المالكي تهميش القوى السنية داخل معادلة الحكم، وتبنيه سياسة داعمة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، بالتنسيق مع إيران.
وعلى ضوء ذلك، اتجهت أنقرة إلى تأسيس شراكة قوية مع زعيم إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني، ودعمه في مواجهة صراعه المرير مع المالكي. وبالطبع، فإن نجاح أنقرة في الوصول إلى تسوية للأزمة الكردية -بالتعاون مع البارزاني- يضيف إلى رصيد الأخير في مواجهة المالكي، لاسيما أن البارزاني سوف يلعب دوراً مهماً في أية تسوية للأزمة، خصوصاً فيما يتعلق باستقبال عناصر حزب العمال الكردستاني التي سوف تخرج من تركيا بعد تسليم أسلحتها.
ومن هنا يمكن تفسير إصرار تركيا على التمسك بعقد المباحثات القادمة بين رئيس المخابرات التركية وقادة الحزب، في أربيل وليس السليمانية، وذلك لتكريس دور بارز للبارزاني في المفاوضات، فضلاً عن تجنب تدخل إيران في المسألة، والذي ربما يؤدي إلى تعطيل المفاوضات أو إجهاضها من الأساس، في ضوء سعي طهران إلى استخدام الورقة الكردية لفرض ضغوط على أنقرة لتغيير موقفها الداعم لإسقاط نظام الأسد.
ورابعها، إدراك حزب العدالة والتنمية أن الاستقرار السياسي والأمني لن يحدث في تركيا إلا في حالة التوصل إلى تسوية للمسألة الكردية، خصوصاً أنها باتت تحظى باهتمام دولي ملحوظ، فضلاً عن أنها كلفت خزينة الدولة ما يقرب من 400 مليار دولار على مدى ثلاثين عاما، حسب تقديرات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، الذي أكد أن الوصول إلى تسوية سلمية للأزمة بات أمراً ملحاً في الوقت الحالي، مضيفاً أنه “لولا مصيبة الإرهاب لكانت تركيا اليوم مختلفة تماماً”.
خطوات إيجابية
بالتوازي مع هذه الجهود الجديدة، بدأت تركيا في اتخاذ خطوات تحفيزية متعددة لإقناع الحزب بجديتها في السعي للوصول إلى اتفاق، حيث أقر البرلمان التركي -في 24 يناير/كانون الثاني الفائت- قانوناً يسمح للمتهمين الأكراد باستخدام لغتهم في المحاكم، وهو مطلب أصر عليه عدد كبير من السجناء الأكراد (680 سجيناً) الذين قاموا بتنظيم إضراب عن الطعام في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، ولم ينته إلا بعد تدخل أوجلان شخصياً من خلال رسالة وجهها عبر شقيقه.
كما أوصى تقرير قدم للبرلمان التركي -حسب تقارير إعلامية- بأن أنسب الطرق للتعامل مع المسألة الكردية يتمثل في نزع صفة العدو عن الحزب، واعتباره تنظيماً إجرامياً يتم التعامل معه من خلال القانون، وإعادة تعريف مفهوم الإرهابي وجريمة الانضمام إلى حزب إرهابي. فضلاً عن ذلك، تعهد أردوغان بعدم تعقب عناصر الحزب التي سوف تسلم أسلحتها وتخرج من تركيا، مؤكداً أن هذه السياسة كانت خاطئة ولن تتكرر، في إشارة إلى قيام القوات التركية بتعقب المنسحبين من تركيا إلى شمال العراق في الفترة الماضية.
صعوبات متعددة
لكن رغم وجاهة الأسباب التي دفعت تركيا إلى إعادة التفكير في سبل التوصل إلى تسوية سلمية للمسألة الكردية، فإن تحقيق هذا الهدف لا يبدو مهمة سهلة، في ظل الصعوبات المتعددة التي تواجهه، وعلى رأسها اختلاف الأجندة والأولويات بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني.
فرؤية أنقرة تركز على “الحل الأمني” في المقام الأول، أي الحصول على ضمانات من الحزب بتسليم الأسلحة وعدم ارتكاب عمليات عنف جديدة، والخروج من تركيا، مقابل إصدار عفو عام عن كوادر الحزب، والإفراج عن عدد من عناصره، وإقرار قانون للإدارة المحلية يشمل كل أنحاء تركيا.
فيما تعتمد رؤية الحزب على “الحل السياسي”، الذي يتمثل في الاعتراف بالهوية الكردية في الدستور، ومنح الأكراد حكماً ذاتياً في جنوب شرق تركيا، وإصدار عفو عام عن عناصر وقيادات الحزب في الداخل والخارج.
ويتضح من ذلك أن مساحة الخلافات شاسعة بين الطرفين، بشكل لا يوفر بدائل متعددة أمام فرص التوصل إلى حلول وسط تنتهي بإقرار اتفاقية سلام. بل إنه يمكن القول إن حكومة العدالة والتنمية تسعى إلى تحقيق الهدف الأهم، وهو انتزاع تعهد من جانب الحزب بوقف العمليات العسكرية، وتثبيت حالة من الاستقرار الداخلي، خصوصاً في الفترة الحالية التي تشهد تحولات جذرية في توازنات القوى الإقليمية، وذلك قبل النظر في المطالب الصعبة التي يتبناها الحزب للموافقة على وقف إطلاق النار.
وبدون شك، فإن قيادة الحزب لن تستجيب لأية مطالب بوقف إطلاق النار إلا في حالة التجاوب مع مطالبها، لاسيما أن فجوة الثقة قائمة بين الطرفين منذ فترة طويلة، يدعمها الفشل الذي واجه الجهود السابقة، ويبدو أن ذلك هو ما دفع الجناح العسكري للحزب في شمال العراق إلى نفي نيته الانسحاب من تركيا، مشيراً إلى أن “خطط عام 2013 ما زالت قائمة حتى الآن”.
ورغم أن مبادرة أردوغان للوصول إلى تسوية للأزمة الكردية حظيت بتأييد حتى من قبل خصومه السياسيين وفي مقدمتهم حزب الشعب التركي، فإن ذلك لا يعني أن أي اتفاق محتمل يمكن تمريره دون ضجيج، في ضوء صعود أصوات من جانب قوى قومية تتبنى موقفاً عدائياً تجاه تقديم ما يمكن اعتباره تنازلات للأكراد مقابل الوصول إلى تسوية للأزمة مع الحزب.
وربما يكون ذلك هو ما دفع بعض الاتجاهات إلى توجيه اتهامات لبعض هذه القوى بالمسؤولية عن عملية الاغتيال التي استهدفت ثلاث ناشطات كرديات في باريس، وذلك سعياً لإجهاض أية جهود للوصول إلى تسوية للأزمة.
إلى جانب ذلك، فإن خطوة تركيا لن تجد دعماً كبيراً من جانب دول الجوار التي ربما تسعى إلى عرقلة الاتفاق، خصوصاً أنه سوف يؤدي -في حالة إبرامه- إلى فقدانها ورقة ضغط قوية في مواجهة أنقرة الساعية بشكل حثيث إلى إسقاط النظام السوري، فضلاً عن أن ذلك سوف يكرس الشراكة القوية التي نجحت أنقرة في تأسيسها مع إقليم كردستان في مواجهة حكومة المالكي، والتي انعكست في إنشاء خط أنابيب لتصدير نفط الإقليم إلى تركيا، ليكون بديلاً عن الخط القديم الذي كان يمر عبر تركيا لكنه كان يخضع لحكومة بغداد، قبل أن يؤدي النزاع بين الإقليم وبغداد بشأن المدفوعات إلى وقف العمل عبر هذا الأنبوب.
كما أن أي اتفاق مع حزب العمال الكردستاني سوف يفرض استحقاقات صعبة في مواجهة تركيا، على رأسها التعامل مع أوجلان، إذ ربما يكون من الصعوبة تصور أن يتم إبرام أي اتفاق بين الطرفين دون النظر في هذا الملف الشائك، الذي تعتبره تركيا “خطاً أحمر لا يمكن المساس به”، وقد عبر أردوغان عن ذلك بشكل واضح بقوله إنه “ليس من الوارد بأي حال من الأحوال نقل أوجلان إلى الإقامة الجبرية”، في رسالة قوية إلى حزب العمال لإقناعه بعدم التشدد في وضع مطالب يكون من الصعب الاستجابة لها من قبل أنقرة.
هذه الاعتبارات في مجملها تكشف أن الانفتاح التركي على الأكراد ربما يكون تكتيكاً أكثر منه سياسة جديدة، للتعامل مع التحديات التي فرضتها الأزمة السورية، والتي بدأت تمس الاستقرار السياسي الداخلي في تركيا التي تبدو مقبلة على استحقاقات سياسية صعبة، على رأسها احتمال إقدام أردوغان على ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى في منتصف عام 2014، بالتزامن مع السعي لتحويل النظام السياسي إلى رئاسي، بكل ما يعنيه ذلك من منح رئيس الجمهورية صلاحيات شبه مطلقة، لتصبح تركيا على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخها الحديث.
الجزيرة نت