انفجار العالم العربي وثنياً/ ميشيل كيلو
بعد مرحلة طويلة من المعاناة مع خيار قومي أخضع بعض الشعب العربي لحكومات مارست عليه ضروباً شتى من الاضطهاد والعسف، ندخل، اليوم، إلى مرحلة من المعاناة مع خيار مذهبي/ طائفي، يشترك مع النزعة القومية التي عرفناها، خلال نيّفٍ ونصف قرن، في نقطتين رئيستين هما: أدلجته التي تجعله يرى الواقع، عبرها وبدلالتها، وعداؤه للإنسان ككائن يتعرّف بحريته ورفضه المواطنة، كحاضنة سياسية للدولة والمجتمع، وتصميمه على إخضاع مجتمعاتنا لسطوة شموليةٍ، يشرف عليها حركيون معصومون، لا يأتيهم الباطل، يعني رفضها عصيان أمر قدسي، وتمرداً عاقبته القتل.
تأتي هذه المرحلة عقب طورٍ عانى العرب، في أثنائه، الأمرّين في معظم بلدانهم، أنتجه وسوّغه أيديولوجياً مفهوم أمة مجردة وضد تاريخية، كتلية لا تعرف أي تراتب بنيوي وعمق إنساني، تعرض المحكومون بسببه لسطوة نظام مذهبي الهوية، فرز الشعب إلى أخيار وأشرار، وشن حرباً منظمة ضده، أدت في سورية، آخر بلدانه، إلى هلاك جسدي وروحي طاول ملايين المواطنين الذين قتلوا بحجة الدفاع عن قومية هولوكوستية، عجزت عن مواجهة أي عدو غير شعبها الذي صادرت إرادته وغيّبته عن الشأن العام، لكي تبرر ما مارسته عليه من إجرام منظم ودائم.
بالتشابه العميق بين هاتين المدرستين المذهبيتين والمؤدلجتين، النافيتين للحرية والإنسان، وبإفشال مشروع الحرية، الذي قدمه الشعب نفسه وقدم أغلى التضحيات في سبيله، يكون من الطبيعي أن يحل محل النظام القومي بديل من جنسه، وإن حمل اسماً آخر، وعبّر عن نفسه بواسطة مفردات مختلفة، تكثر من الحديث عن المقدس، كأن رئيس النظام القومي لم يكن مقدساً، أو لم يمارس أعمالاً جرمية ضد مواطنيه، وإنْ بأدواتٍ مغايرةٍ لأدوات قادة التيار المذهبي/ الوثني الديني الكلام الذي يبطش بالسكاكين بمن قتلهم صنوه القومي بالبراميل المتفجرة والصواريخ المجنحة والسلاح الكيميائي.
بنفي الإنسان وحقوقه وهيمنة أيديولوجيا معصومة، يعاد إنتاج الواقع، أو تصحيحه في ضوئها، وبدلالتها بما هي معيار الخير ضد الشر، نكون أمام انفجار من حلقتين متماسكتين: أنضجت القومية منهما كل ما كان ضرورياً، لتمزيق أواصر العرب، ولتدمير مجتمعاتهم ودولهم، وها هي المذهبية/ الوثنية تحصد بسكاكينها أعناق الذين نجوا من قذائف صبّها عليهم خلال قرابة أربعة أعوام جيش “قومي”، رفض البديل الديمقراطي الحر الذي طالبوا به، وقاموا بالثورة من أجله، وفضّل أن يجعلهم أصوليين يكرهون الحرية، ويرفضون حكم الدستور والقانون، من الأفضل له أن يصيروا وثنيين بلا هوية فردية أو حقوق.
انفجر العالم العربي، وتفتت أطرافه، وانهار مركزه بالتلازم مع صعود وانهيار رهان قوميٍّ، استأثر خلال نصف قرن باهتمام وحراك قطاعات شعبية ونخب سياسية وازنة. وها هو الرهان المذهبي/ الوثني اللابس لبوس الدين يحقنه بعصبياتٍ تدمر وجود الإنسان نفسه، يجسدها عبر ممارساتٍ، إن نجح في تعميمها بقوة سلطته المفرطة الأدلجة، أوقع العرب في هاويةٍ، لن يخرجوا منها في زمن منظور، هي نهاية الإنسان العاقل والصانع، منتج مفردات الحضارة البشرية والتقدم الإنساني الذي سيخلي مكانه لوحش “داعش” الذي سيقضي على كل شيء أبدعه خلال الخمسين قرناً المنصرمة من تاريخ البشرية.
لم يعد المشروع الديمقراطي/ الوطني، الإنساني/المدني، القائم على الحرية والعدالة، مجرد شأن سياسي. غدا، بالأحرى، مطلباً وجودياً وإنقاذياً للشعب والأمة، ما دام استمرار المشروع القومي في نسخته الأسدية يقتلنا، وانتصار صنوه وبديله الوثني يعد بالإجهاز التام علينا: جماعات وأفراداً.
العربي الجديد