انقلاب زاحف على الثورة في سوريا: ميشيل كيلو
ميشيل كيلو
يتم اليوم انقلاب زاحف على الثورة، تنفذه جماعة إسلامية تتسلط على ما يسمى المجلس الوطني – والوطنية منه براء – والإئتلاف الذي يعرج على ساقه الواحدة، ولم يأتلف مع أحد غيرها، بعد أن مكنتها صفقة مع قوى خارجية من وضع يدها عليه هو ايضا، بالاحتيال والمكائد والوعود الكاذبة، فلا عجب أن ظن بعض قادتها أن وضع يدها على الحكومة الانتقالية سيمكنها من استكمال سيطرتها على المؤسسات الرسمية البديلة للنظام، التي يعترف العالم بتمثيلها للمعارضة السورية، وأن الاعتراف الديبلوماسي الدولي بممثليات الإئتلاف يجب ان يكون الحلقة ما قبل الأخيرة في انقلابها، الذي تظنه خفيا لا تراه أعين السوريين، وتعتقد ان بوسعها مواصلته بكل هدوء دون أن يفتضح امرها أو يقاومها احد، فيكون وصولها الى السلطة حتميا بعد سقوط الاسد وتنفرد بالبلد، في سابقة لم ينجح أي تنظيم إسلامي في الإتيان بمثلها، سواء في تونس أم في مصر، حيث وصل الإسلاميون إلى السلطة عبر انتخابات نيابية حرة، بينما تخطط هي للاستيلاء عليها قبل إجراء اية انتخابات، او بالأحرى لمنع إجراء أية انتخابات حرة، لعلمها الأكيد أنها ستهزم، وان مجتمع سوريا لن يقبل حكمها، لثقته بأنها ليست اهلا للثقة، وستكرر على نطاق وطني موسع مغامرة 1980-1982 الطائفية، التي كلفت الشعب عشرات آلاف الشهداء ومئات آلاف المهجرين والمسجونين والمعذبين.
يثق الناس ان الجماعة ستكرر مأساة حماه، فهم يرونها بأم أعينهم وهي تخزن الأسلحة والذخائر في كل مكان من سوريا، وتشتري الولاءات وتستعمل المال السياسي وتمارس الوقيعة بين المواطنين، وتمد خيوط التبعية والتفريط بالاستقلال الوطني وحريات السوريين إلى واشنطن عبر قطر، لاعتقادها بضرورتها لاستيلاء مناصريها ومحازبيها على السلطة، خاصة إذا ما سوقتها أميركا لدى تل ابيب، واقنعتها أن حكمها سيكون أقدر على تحييد وشل الأصولية الإسلامية اكثر من اي حكم ديموقراطي.
هذا الانقلاب الزاحف، الذي يتم اليوم فوق، على مستوى تمثيل المعارضة ومؤسساتها المعتمدة دوليا، واكبه جهد كبير هدفه خلق أمر واقع على الأرض، استمر طيلة العامين المنصرمين من عمر الثورة، ويرجح أن أيدي أجنبية ذات خبرة مخابراتية رفيعة المستوى هي التي رسمته وترعاه، تحقق بعضه من خلال شراء ذمم المواطنين عامة ورجال الدين خاصة ـ مع فشل واضح -، وتشكيل «ميليشيات»، وتخزين أسلحة وذخائر في مناطق مختلفة من سوريا، وشراء منظمات مسلحة، وتشكيل «جبهات» تحمل اسماء تخفي هويتها وارتباطها، والتحكم بالإغاثة، والتسلل إلى المجالس المحلية والمدنية، وتحقيق سيطرة منظمة على الحراك ومؤسساته، واختراق منظمات العمل العام والمقاومة، وشن حرب ضارية ضد خصومها، والعمل على عزلهم وتشويه سمعتهم وتحشيد العوام والبسطاء ضدهم، والتعامل مع الآخرين كمنافسين لا بد من دفعهم الى معارك يتركون خلالها بمفردهم ويقعون فريسة للهزيمة، مثلما حدث مرات متعددة وفي اكثر من مكان إبان العام الماضي والحالي، وخاصة في دمشق وحلب، حيث تسببت آلاعيبهم في مقتل وجرح آلاف المقاتلين والمدنيين العزل، وتشريد آلاف المواطنين من منازلهم… الخ. في الوقت نفسه، وقع عمل منظم اشرفت عليه دول عربية وإقليمية استهدف بناء ميزان قوى داخلي وخارجي يبدو في الظاهر داعما للثورة، لكنه يقتصر في جزئه الأعظم على دعم «الجماعة»، وتقييد حضور ودور الأطراف المعارضة الأخرى، وخاصة الديموقراطية منها، التي تكاد تجد نفسها اليوم خارج أي تمثيل منصف يعبر عن وجودها السياسي والشعبي، ومستبعدة عن أية جهود إغاثية منظمة، وأية معونات موجهة إلى السوريين، وعن حركة المال والسلاح، بل وخارج الجزء الأكبر من وسائل الإعلام والفضائيات ـ من ذلك على سبيل المثال، أن فضائيتي «العربية» و«الجزيرة» سجلتا ساعات عن مؤتمري «المنبر الديموقراطي السوري» في القاهرة خلال العام 2012، لكنهما لم تبثا إلى اليوم أي خبر عن تشكيله وبرامجه ورهاناته ـ وخارج العلاقات والاتصالات الدولية الرسمية، والدعوات والمؤتمرات المهتمة بالشأن السوري، التي تقتصر غالبا على «مناضلين» لم يسمع أحد بهم قبل أشهر قليلة، ينتمون إلى «الجماعة» وزلمها من يساريين وليبراليين… الخ.
بكلمات أخرى: لسنا في مواجهة «الجماعة» وحدها، بل نواجه جهدا عربيا وإقليميا ودوليا منظما يمدها بقوة تعوضها عن نقاط ضعفها، التي لا تعد ولا تحصى، وتساعدها على تجاوز عثراتها وتأخذ بيدها وتضع قدرات ضخمة تحت تصرفها تشد أزرها وتبعث الثقة في نفسها بعد عقود الغربة عن الشعب والوطن وقضاياهما، وما مارسه قادتها الفاشلون من تقلب في سياساتهم بعد وصول الأسد الابن إلى السلطة، حتى انهم غيروا تحالفاتهم اربع مرات خلال خمسة أعوام (بدأوا بالتحالف مع المعارضة وبالانضمام إلى «إعلان دمشق»، ثم ما لبثوا أن هجروه وانضووا في ما سمي «جبهة الانقاذ» بقيادة الأستاذ عبد الحليم خدام، وبعد أقل من عامين عرضوا التحالف على النظام الأسدي، وبرروا عرضهم بقيام هذا النظام بدور وطني يحمي المسلمين في فلسطين، وحين رفض عرضهم ظلوا «لا معلقين ولا مطلقين»، لا يدرون ما يفعلون، وقد أخرجوا أنفسهم من جميع التكتلات السياسية، لذلك سارعوا بعد نشوب الثورة إلى ركوب موجتها، مع أنه لم يكن لهم أي علاقة على الإطلاق بها، ولم يعرفوا شيئا عنها ولم يشاركوا في التحضير لها، لأنه لم يكن لهم بكل بساطة أي وجود من أي نوع في سوريا طيلة ثلاثين عاما. وبدل أن يخدموها باخلاص تكفيرا عن ذنوبهم وتذبذبهم، بدأوا منذ اول يوم في التسلل إلى مواقع بعينها داخلها، وشرعوا ينفذون انقلابا زاحفا عليها يريدون أن ينتهي باستيلائهم على السلطة مباشرة بعد سقوط النظام، مستعينين بدولة عربية، وأخرى إقليمية، وكل من هب ودب في الداخل والخارج، بغض النظر عن توجهه وتاريخه).
بدأت «الجماعة» انقلابها عندما استولت على ما سمي «المجلس الوطني»، آن شرعت تمارس سياسات تضع القضية الوطنية تحت إشرافها والمصالح الوطنية العليا للثورة تحت مصالحها الحزبية، ووسعت سيطرتها بالتدريج على القضية الوطنية من خلال جهازها الخاص، وعملت في الوقت نفسه للتمكن من الأرض بالمال السياسي و«الميليشيات» المسلحة، لوضع «المجلس» امام سطوتها كامر قائم، وكي تعدل ميزان القوى لصالحها فوق وتحت في آن معا، وتقوم بالخطوات التالية انطلاقا من الواقع الجديد، وهكذا دواليك. هذا التكتيك تم اتباعه إلى اليوم: إنه يقوم على قضم الحراك على الأرض و«أخونته»، تمهيدا لقضم تمثيل الآخرين وحضورهم فوق، مع تغليف كل خطوة بلغة مراوغة تعلن انتماءها إلى الديموقراطية وتتهم الآخرين وتخونهم (خوّن احد نكرات «التيار»، لم يسمع به أحد قبل الثورة، المناضل والمفكر الوطني الديموقراطي الكبير ياسين الحاج صالح، الذي امضى سبعة عشر عاما وستة أشهر في سجون النظام، بينما كان هذا «المجاهد» يتقلب بين اذرع مخابرات دول مختلفة منها الأردن وإيران، لأن ياسين ـ المؤيد آنذاك للمجلس – استنكر قيام مجاهد الجماعة باستخدام وسائله للدعاية لنفسه، واتهم حسن عبد العظيم وعارف دليلة وعبد العزيز الخير ـ المقيم اليوم في السجن وارجو أن لا تكون قد تمت تصفيته – بالعمالة للنظام، في تصريح أدلى به ردا على المطالبة بتوسيع الإئتلاف، حين قال إنه يرفض التوسيع لأنه لا يجوز قبول هيئة التنسيق، التي ينتمي الاخوة الثلاثة إليها، لأنهم عملاء لمخابرات النظام!). بهذا «التكتيك» وبسيول من المال السياسي والأكاذيب الإعلامية زحفت «الجماعة» نحو السلطة، التي لم تر لها هدفا غيرها، وإلا لما كانت لاقت النظام في منتصف الطريق، وساعدته على تطييف الحراك من أجل الحرية وحرف نضال الشعب الواحد إلى صراع طائفي، وقلب ثورة سلمية إلى اقتتال متعسكر، ولما تبنت نهجا هو عين نهج «البعث» في الإقصاء والاستبعاد واحتكار الحقيقة وانكار حق غير المنتمين إليها في أن يكون لهم رأي مخالف لرأيهم. وهناك عشرات الأمثلة التي تؤكد أن الجماعة لا تقبل الرأي الآخر، بحجة أنها قالت الحقيقة حول كل أمر، وأن على من يريد القول أن يكرر ما تقوله هي، كما أخبرنا الأستاذ البيانوني في لقاء البحر الميت، عندما اقترحت مبادئ لتطبيع علاقات أطراف المعارضة بعضها مع بعض، فرد قائلا: نحن لدينا العهدة الوطنية ولسنا بحاجة إلى أي ميثاق أو مبادئ غيرها. وحين ذكرته باحترام الرأي الآخر، قال بعدم وجود ديموقراطية ورأي آخر في الحقيقة. واليوم، نحن على مشارف سقوط النظام، يشدد التيار انقلابه الزاحف على الثورة، فمن سيطرة على «المجلس الوطني» إلى سيطرة على «الإئتلاف» فالحكومة فالتمثيل الديبلوماسي لا يبقى لها غير خطوة واحدة لاستكمال وضع يدها على السلطة داخل سوريا، هي سقوط النظام، بعد أن وضعت يدها عليها خارجها.
لن ينجح هذا الانقلاب، لأن «الجماعة» لا تملك القدرة على رد بلادنا إلى حال طبيعية، وضبط فوضى السلاح، والحكم بطرق قانونية ودستورية منظمة وشرعية، لذلك بدأت في الآونة الأخيرة هجوما عاما وقررت إزاحة كل من يقف في طريقها والقضاء عليه معنويا وماديا بجميع الوسائل المتاحة، تمهيدا لحكم سوريا بالسلاح. ولنقلها من استبداد قومي مؤدلج إلى استبداد مذهبي مقدس، ضحاياه من سيبقون أحياء من الشباب والثوار، لن تكون له نتيجة غير تضييع ثورة الشعب ضد الاستبداد الأسدي والخضوع للاستبداد المذهبي، الذي سيحل محل النظام الديموقراطي المأمول، هذا إذا لم تهلك سوريا تحت وطأة المذهبية المسلحة، وهي التي ستخرج منهكة ومدمرة وخاسرة من معركتها في سبيل الحرية.
لا يجوز أن تُحكم بلادنا من تيار واحد : بما في ذلك التيار الديموقراطي الذي انتمي شخصيا إليه. ولا بد من توافق وطني شامل على حكمها خلال مرحلة الانتقال، التي لن تدار بنجاح إذا لم يتم ضبط المجال المجتمعي المدمر والممزق والمسلح، بيد مجال سياسي موحد. أما البداية فإلى توافق يؤسس لتوازن وطني، عبر حل «المجلس الوطني» وإعادة هيكلة «الإئتلاف» على اسس وطنية تتخطى الحزبية فيه، كما في الحكومة وممثليات الجمهورية العربية السورية ـ وليس «الإئتلاف»، لأن «الإئتلاف» ليس الدولة السورية أيها الافاضل-، على أن تتولى قوى التوازن المتوافقة إدارة مرحلة الانتقال بكاملها، وتجري انتخابات نيابية، يشكل الحكومة من يفوز باغلبية نيابية. عندئذ، سنقول للاسلاميين «صحة وهنا» إن هم فازوا فيها، وسنكون مواطنين صالحين يعارضونهم سلميا وضمن اطر القانون والوحدة الوطنية وسلامة وامن الدولة. وسنقبل بكامل الرضا حكمهم، لانه سيكون شرعيا ورشيدا، وليس انقلابيا ومعاديا للثورة: حكم سلام ومواطنة وليس حكم حرب وفوضى وتمييز.
رغم كل ما تفعله «الجماعة»، فإننا نمد يد التوافق والتفاهم إليها وإلى التيار الإسلامي عامة، باسم القوى الديموقراطية السورية، التي لا تنكر حقهما في الوصول إلى السلطة بالطرق الدستورية والشرعية، وتطالبهما بقبول تحدي الديموقراطية بعد سقوط النظام، وبالتخلي عن الانقلاب التآمري قبله، لأسباب كثيرة اوردتها سابقا، ولأنه يطيل عمر الأسدية ويكبد الشعب مزيدا من الخسائر.
السفير