بأمر النواب السلفيين
محمود الزيباوي
كما في السياسة، كذلك في الفن، يتواصل السجال في مصر حول الحلال والحرام، وتتوالد الفتاوى والفتاوى المضادة. يواجه نجم سينمائي حكماً بالسجن ثلاثة أشهر في دعوى ازدراء بالدين. تعلن إحدى النجمات أنها صوفية القلب وسلفية العقل وإخوانية الاتجاه. نجم آخر يقول إن مصر ستتخطى المصاعب وستكون الأفضل لأنها ذُكرت خمس مرات في القرآن الكريم.
تحت عنوان “بأمر النواب السلفيين: حـذف قبـلات وأحضـان الحبايـب”، كتبت منى عشماوي في مجلة “صباح الخير”: الواقع يقول إنه منذ اعتلاء الإسلاميين للمشهد السياسي في مصر بدا يتكشّف أنهم يريدون قلب حياتنا رأسا على عقب، في العلن يقولون إنهم يريدونها ديموقراطية، ولكن في ما بين أنفسهم يريدونها خلافة إسلامية تابعة لدول تموّل الإسلاميين منذ ظهورهم حتى اليوم. لذا ليس غريبا على التلفزيون المصري أن يبدأ بتطبيق حذف المشاهد الحميمية من أفلامنا القديمة لنجد أن الأمر قد يكون بداية لحذف أغنيات أو مشاهد مهمة في الفيلم لأن البطلة لابسة مايوه أو تقبّل البطل”.
جاء قرار الحذف هذا بعد مناقشات نارية في مجلس الشعب أصر خلالها النواب الإسلاميون على “ضرورة حذف كل ما هو مخالف لأمر الله من الأفلام”، وبات الكثير من الأفلام التي أنتجت في الستينات والسبعينات مهدداً بالحذف من أوّله إلى آخره لكونه “مخالفاً لأمر الله”، كما جاء في التعليق. سألت المجلّة النائب ممدوح إسماعيل عن الأسباب التي دفعت المجلس إلى اتخاذ هذا القرار، فقال: “أنا أقسمت وأقسم زملائي أن نحافظ على البيت المصري والأسرة، وهذه الأفلام خليعة، يعني أنتم عاوزينا نسهّل للشباب مشاهد الجنس والبانجو بالمرّة، دي مسؤوليتنا أن نحافظ على الأخلاق من أن تتلف”. واصلت الصحافية حوارها مع سيادة النائب، وسألته: “ولكن أكيد أنك كنت تشاهد هذه الأفلام لحليم وهند رستم، وطلعت أهوه رجل وقور ولم تتلف أخلاقك؟”، فردّ ضاحكاً: “كنت بشوف أفلام إسماعيل ياسين، والحقيقة في العموم لم أكن مهتماً بالفرجة على التلفزيون، لكن أنا أتكلم في قواعد عامة وأسس أخلاقية أفسدها مبارك طوال ثلاثين سنة”. في الختام، أشارت المحاورة إلى عبثية هذا القرار في زمن باتت فيه كل سموات الدنيا مفتوحة أمام الناس، فأجاب: “إحنا بنعمل اللي علينا، ومن وجهة نظرنا هذه مشاهد خليعة وتخدش الحياء”.
موسيقى أم كلثوم وفيروز
يأتي هذا القرار في زمن يواجه فيه عادل إمام حكماً بالسجن ثلاثة أشهر في دعوى ازدراء بالدين في واحد من أشهر أفلامه. قيل إن صدور هذا الحكم هو بمثابة تصفية حسابات مع النجم الشهير من بعض التيارات الإسلامية، غير أن الأحداث المتلاحقة تظهر أنّ هذه القضية أكبر من أن تكون عمليّة ثأر فحسب. يراقب أهل الفن تمدّد سلطة الإسلاميين بعد سيطرتهم على مجلسي الشعب والشورى، ويعبّر البعض منهم بحذر عن خوفهم من هذا التمدّد. في محاولة لطمأنة النفوس وجذب الجمهور المعتدل، خرج عبد المنعم أبو الفتوح بتصريح أثار أكثر من تعليق. أبو الفتوح قيادي سابق في جماعة “الإخوان المسلمين”، شغل منصب الأمين العام لاتحاد الأطباء العرب، يخوض اليوم معركة رئاسة مصر “مستقلاً” بعد فصله من الجماعة. جاء هذا التصريح من خلال برنامج “تسعون دقيقة” على “قناة المحور”، وفيه تحدث أبو الفتوح عن حرية الثقافة والتعبير، وأكّد أنه لن يمنع أي رواية أو أي قصة، وقال إنه يتابع الأفلام السينمائية، وإنّ آخر فيلم شاهده كان “أيام السادات”، وإنه لا يحرّم الموسيقى على الإطلاق، ويُفضّل موسيقى أم كلثوم وفيروز ومحمد عبد الوهاب.
في مجلة “آخر ساعة”، كتبت سلمى قاسم جودة في باب “لحظة وعي”: “رصدت بعض ما قاله أو فعله بعض الرؤساء المحتملين، د. أبو الفتوح، رداً على الأستاذ عمرو الليثي: من تحب سماعه من المطربين؟ أجاب: موسيقى أم كلثوم وفيروز. والمعروف أن المطربات بهن أصوات. فهل الصوت عورة يا دكتور؟! فأم كلثوم ليست السنباطي، فهي صوت لا لحن”. في المقابل، كتبت سهام ذهني في “صباح الخير”: “لفت نظري خلال الحوار مع مرشح الرئاسة د. عبد المنعم أبو الفتوح ما قاله حول أنه يحب الاستماع لأم كلثوم وفيروز، فهذا كلام أبلغ بكثير مما لو تحدث بكلام نظري حول ان موقفه من الفنون هو انحيازه للفن الحقيقي البعيد عن التجارة بالفن”. في نهاية عام 1925، كتب الشيخ الأزهري مصطفى عبد الرازق بإعجاب بالغ عن أم كلثوم يوم كانت صبيّة يافعة تؤدي الأناشيد الدينية وهي تعتمر العقال، فامتدحها ودعاها إلى خلع العقال، وجاءت هذه الدعوة بصيغة السؤال: “أم كلثوم نعمة من نعم الدنيا، فما بالها تأبى إلا أن تتجلّى على الناس بمظهر الآخرة؟”. بعد مرور أكثر من ثمانية عقود، يعود السجال حول الغناء وصوت المرأة، ويبدو إعلان الدكتور أبو الفتوح عن إعجابه بأم كلثوم وفيروز تصريحاً جريئاً يشهد لانحيازه للفن الحقيقي.
تتخبّط مصر بين الإخوان والسلفيين والعسكر، وتتواصل الفتاوى المضادة حول التمثيل والحجاب والنقاب وما شابه. في ظل هذه السجالات، تحدثت النجمة المحجبة حنان ترك في برنامج “واحد من الناس” على قناة “المحور”، وقالت إنها صوفية القلب وسلفية العقل وإخوانية الاتجاه، وأضافت: “أخذت من كل تيار ما ينقصني، فالعقل من السلفيين خاصة أنني أحب أن أسأل في كل تفصيلة ولا أقتنع إلا بالدليل، والقلب من الصوفيين لأني متعلقة دائما بالطريق إلى الله، والاتجاه من الإخوان لأنهم منظمون، ولديهم منهج في التفكير وخطة معدة للتنفيذ. أحببت الجماعة السلفية وانضممت لهم لأنهم فنوا أنفسهم في الدراسة والبحث والتجرد من كل شيء، حيث اعتزلوا الدنيا وما فيها ولا يفكرون إلا في الآخرة”. قالت حنان ترك “إنها انضمت للجماعة السلفية قبل ارتداء الحجاب بعام تقريبا، ودرست معهم العلوم الشرعية وجزءا من البخاري وجزءا من السيرة، لافتة إلى أن الجماعة لم تطالبها بالابتعاد عن الفن، وأنها ما زالت متصلة ببعض هؤلاء حتى الآن”. وأكدّت النجمة المصرية أنها نادمة على التأخر في ارتداء الحجاب حتى سن الثلاثين، كما أنها نادمة على بعض المشاهد التي قامت بتمثيلها بعد ارتدائها الحجاب، مثل مسك اليد أو الكلام في الحب، كما حدث في مسلسل “هانم بنت باشا” ومسلسل “القطة العمياء”. تجاوزت هذا الحديث حدود الفن وطال السياسة. رأت حنان ترك أن مصر تحتاج إلى مدير شاطر، وأن الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح هو الأصلح لهذا الدور لأن معظم الأحزاب والتيارات تُجمع عليه.
أمّ الصابرين
على مدى عقود من الزمن، مجّدت وسائل الإعلام نجوم النهضة والتنوير، وها هي اليوم تمجّد نجوماً من لون آخر. في زمن الصعود السياسي لجماعة “الإخوان المسلمين” والتيار الإسلامي، يواصل المخرج أحمد إسماعيل الحريري العمل على إنجاز مسلسل “أم الصابرين” الذي يتناول السيرة الذاتية للداعية الشهيرة زينب الغزالي، وذلك بعد موافقة ورثة الداعية على دخول الكاميرات إلى منزلها الحقيقي والتصوير داخل مكتبها الخاص. يرصد هذا المسلسل قصة حياة هذه الداعية منذ ميلادها حتى وفاتها، مركّزا بصفة خاصة على الفترة المؤثرة في عمرها، منذ بلوغها العشرين حتى وفاتها عن عمر يناهز التسعين عاماًَ، مرورا بانضمامها إلى الاتحاد النسائي الذي كانت ترأسه هدى شعراوي، ثم انتقالها إلى تنظيم “الإخوان المسلمين” وتوليها منصب رئيسة الأخوات، ويختصر البعض هذه المسيرة بعبارة: “من السفور إلى الحجاب”. ناصرت زينب الغزالي في شبابها لواء التحرّر، وصادقت هدى شعراوي، وانضمت إلى “الاتحاد النسائي”، فأصبحت من أبرز عضواته، وخاضت مناظرات ومجادلات مع عدد من الأزهريين المناهضين لشعاراته، ثم عادت وخرجت من الاتحاد بعد تعرضها لحريق منزلي كاد يقضي عليها، وأسست جمعية للسيدات المسلمات تعنى بنشر الدعوة الإسلامية، واستقطبت هذه الجمعية في وقت قصير نخبة من سيدات المجتمع. دخلت زينب الغزالي في مرحلة لاحقة جماعة “الأخوان المسلمين”، وقدّمت الدعم لأسر هذه الجماعة في عهد الثورة، واعتقلت بعد صدور القرار الحكومي بجمعية “السيدات المسلمات”، وسُجنت ست سنوات تعرضت خلالها للاضطهاد كما روت في كتابها “أيام من حياتي”، واُطلقت في عهد السادات بعدما توسّط الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز للإفراج عنها، فمارست مهمتها الدعوية في عدد من الدول العربية والإسلامية، كما زارت الجبهة الأفغانية، وواصلت نشاطها حتى وفاتها في عام 2005.
قبلة التوجّه
تقول سيرة الداعية إنها أقبلت على العبادة والتضرع إلى الله بعد تعرضها للنار التي كادت أن تفتك بها، وأن شفاءها كان أشبه بمعجزة، وقد أوفت بعهدها عند قيامها من هذه التجربة، فنزعت القبعة الحديثة، واعتمرت الخمار القديم، وقدمت استقالتها من جمعية هدى شعراوي، ثمّ أنشأت “جمعية النساء المسلمات”، وانصرفت إلى أعمال الخير وإقامة المساجد وتخريج الواعظات. ومسيرتها لا تزال مستمرة بعد رحيلها كما يبدو. تلك هي مصر اليوم، وفيها يطغى الخطاب الديني ويعلو على كلّ خطاب آخر. في حديث عن أحوال البلاد بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، قال الممثل أحمد زاهر الملقّب بـ”ليوناردو دي كابريو مصر”: “أنا قلق بالطبع على مصر لكن بداخلي إيمان قوي أن تصبح بلدنا أكثر قدرة على تخطي المصاعب، وستكون الأفضل لأن مصر ذكرت خمس مرات في القرآن الكريم، وهذا اكبر تكريم لها، ولذا هي محبوبة بين دول العالم، ولها مكانة خاصة جدا في قلب كل عربي، ودائماً قبلة التوجه من أي زائر شقيق، وفيها يشعر بالهدوء”.
النهار