صفحات الثقافة

بأي نصر سيعود الجنود الأشاوس إلى ثكناتهم ؟؟


محمد كتيلة

لم تنته الحرب بعد، والوحش الصغير الماكر، سليل الممانعة اللفظية الواهية، لن يفرط بالتركة التي أهلكته وأودت بالبلاد، ولا يزال يتنفس، ولكن بصعوبة بالغة… ومن الواضح أنه لن يسلم أو يستسلم، ما لم يتم الإطاحة به عنوة، لعلمه أن الثورة، ومنذ البدايات الأولى، لم تقم عليه وعلى من حوله فقط، بل عليه وعلى من أورثه روح الإجرام وتاريخ سفك الدماء الطويل، حفاظاً على العرش المتهالك والأسرة المارقة.

الحرب الوحشية المفترضة ومن طرف واحد إبتدأت، وجبهة الأعداء في الطرف المقابل، خالية من الجيش النظامي والعتاد، خاوية من المتاريس والتحصينات، ما عدا شعب، نهض من ركام الأيام ووقف تحت مطر الرصاص يستنجد بالسماء!

فإذاً، إلى أين تمضي هذه الدبابات والعربات العسكرية والآليات المجنزرة بالشبيحة والسفلة والحثالة من اللصوص والقتلة، وأي طرق وسماوات تسلك هذه المروحيات والصواريخ العابرة للمدن والقرى والأجساد الآدمية، وبأي نصر سيعود الجنود الأشاوس إلى ثكناتهم  ؟؟

بلاغة الرصاص من أحجيات العدم، فلتكمل الصواريخ ما عجزت عنه القناصات والبنادق والسكاكين، إذ لا خلاص ولا نجاة للطغاة إلا برؤية الدم يغسل وجه الوطن ويلمِّع علم البلاد !!

سلطان الحرب لم يعد يصوب على الجسد المنتفض إلى آخره، ولا على شهيته المفرطة للحرية، بل أنه يوسع يوماً بعد يوم ممراً بين الجثث والأعداد الهائلة من الضحايا، يوصله بأمان لمنصة الدم ليعلن إنتصاره مزهواً أمام الهباء والمعجبين به ، كما حصل في بابا عمرو، حين أطال وقوفه المتعثر بين الأنفاض خائفاً مرتعداً وفي سره تمتم كالأبله: أرادوا ثمناً للحرية، فمنحتهم إياها الآن وفي الآخرة… ومن القريب ومن بين الخراب والبيوت المدمرة ردد الصدى: مرحى مرحى، قتلتني، عافاك الله قضيت علي، أجهزت على الوطن…. وفي الأعالي قرب النجوم الكابية، صرح الجنرالات بصوت مخنوق بعد التحية المتحشرجة: لقد صمدنا يا سيدي أمام جحافل العدو المفترض، وخسائرهم توازي خسائرنا لا اقل ولا أكثر، ولا غالب ولا مغلوب، لم نخسر سوى أهالينا، لم نعرف الراحة يا سيدنا منذ أن أمرتنا بتسريح الوطن !

لم تنته الحرب، واحتمال الألم صعب وشائك ومعقد، وأصعب ما فيه إستحالة إزالته ولو جزئياً، من واقع لم يعد هو الواقع، ولا كما كان عليه، ولا كما سيكون عليه بعد كل هذا الخراب، فالقاتل والقتيل لم يعد يجمع بينهما أي شئ، لا علم ولا هوية، ويفترقان الان وإلى أبد الأبدين .

الضجر في القمة، والصبر فقد أعنته، والموت على مواقد الساعة المتجمرة، يرتفع يتصاعد ومن ثم ينحني ويتدرج بالأرقام المتسارعة التي لا تهدأ، قتلى، شهداء ضحايا ، جرحى وأهل هنا وأهل هناك وراء التلال، على الحدود، والرصاص يعوي في كل زاوية وشارع، وفي كل مكان يأوي حي أو ناشط، مغني أو منشدطائر، لا يترك طفل في حضن أمه أو في نومه، ولا إمرأة حامل، ولا يجامل أحد ولا يعترف بأحد… فما هو شكل النهاية، ولماذا كل هذا القصاص، أما من خلاص يرضي الطاغية خارج هذا الفناء ؟؟ وهل يحتمل العقل الصاحي أو المريض كل هذا الموت والذي لم يتوقف لثانية  من أجل نهاية الأوغاد، المعادلة صبعة ومقرفة وليس من السهل إحتمالها .

من أين جاؤوا بكل هذه الضغائن الرهيبة والحقد الأعمى المدجج بالكراهية وكل أنواع السلاح، لشعب ذنبه الوحيد أنه تحمل ما  لا يُحتمل، ولا زال يربي الحمام على السطوح وفي أعالي الأبراج، ويغني في  ساحات الموت والمقابر ويرقص رقصته الأخيرة في لحظة الواداع.

كم كنا نخشى عليهم من غضبة الوحش وماشيته وحاشيته الجوارح، إذا ما تنفسوا الصعداء وحلموا بالحرية، وإذا ما ضاقت بهم السبل بعد النهوض والسير في الشوارع بإرادة وعزم لا يلين…. نستغرق في آلامهم الآن وفي لحظات الصحو الهاربة من العدم، نستغرق ونغرق في دمهم المسفوح على الطرقات والبيوت المهدمة، وفي ليلهم المقطوع من ضوء النهار، في عوزهم ومقتهم وافتقارهم  للكلام الطيب الحنون ومد يد العون للمصافحة وشد الوثاق.

نمر بين ذاكرتين وهذه الحرب القذرة…. نضيع بين زحام الرصاص وانشغال القتلى في ترتيب أماكن إقامتهم الأخيرة على أرض الوطن والفجائع، وطن الخسارة وآخر الوحوش الكاسرة..وندرك جيداً وكلنا فخر واعتزاز بهم، أنهم  دخلوا المرحلة الجديدة المطلة على قمر السوريين القدامى وأجيالهم الجدد وانتصروا على خوفهم ورعبهم، وما همَ هؤلاء المجللين بأجمل ما في الإنسان من كرامة وعزة وخلود، أبناء الملاحم الكبرى مع أبشع وأفظع إحتلال للأرض والعرض والذاكرة، طالما أن العدو تقهقهر وانهزم منذ أول شهيد سقط على تراب الأرض الطيبة برصاص من لا وطن لهم ولا هوية.

كاتب فلسطيني يقيم في كندا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى