بؤساء الثورة الفرنسية السورية
حسين سليمان
من يشاهد الفيلم الغنائي البريطاني ‘البؤساء’ المنتج في نهاية عام 2012 من اخراج ‘توم هوبر’ يؤدي هيو جاكمان دور جان فالجان، وتلعب آن هاثواي، الحاصلة على جائزة أفضل ممثلة في الفيلم، دور فونتين لا بد له من أن يقوم بعملية توليف يطابق من خلالها الشكل الغنائي على ما يجري من أحداث في هذه الرواية الكبيرة.
في هذا النمط من الأفلام يلاحظ المشاهد أن خياله يشطّ بطريقة مختلفة مما لو كان يشاهد فيها فيلما معتادا، فيقوم في الأفلام الغنائية بإعادة إنتاج الأحداث ولصقها بالواقع، وهو ما يفعله مشاهد المسرح عموما، حيث هناك فجوة كبيرة بين عالم الواقع وبين ما يجري على خشبة المسرح، إن كان من ناحية الزمان أو المكان. لا قدرة للمسرح على ملء الفراغات التي تنشأ بينه وبين الواقع سوى بالاعتماد على خيال المشاهد، وبالتالي فإن العبء الإيجابي سيقع على عاتق المشاهد في فتح تلك الأقنية في الخيال وبث فيها التعويضات لتوليد النواقص التي يفتقدها المسرح. كذلك الأمر في الأفلام الغنائية التي تلغي أبعادا كثيرة ويتم في ذلك الإلغاء تداخلات تعيدنا إلى عصر الروي الشفاهي، وفيها سيكون المتلقي أكثر إيجابية في حث الخيال وتحويله إلى خيال ديناميكي فعال.
قدمت السينما البريطانية أيضا فيلما روائيا آخر في نهاية عام 2012 وهو ‘آنا كارنينا’ لكنه ليس فيلما غنائيا كما هو حال فيلم البؤساء، بل كان ذا طابع مسرحي، نجد فيه القطار والخيول وساحات السباق وامتدادات الأمكنة، كما في الأحلام، في مكان واحد لا مسافات بينها، لوحات متجاورة، وللانتقال من واحدة إلى أخرى يجب استخدام طرائق التحول، يشبه إلى حد بعيد الانتقال المزعوم الذي يحدث في عوالم المتصوفة الكبار الذين ينتقلون من عالم إلى آخر بطي الأرض ومسافاتها، جملةٌ من أجواء متجاورة تحدث في العالم وتنقل للمشاهد الأخبار. في هذا الحال من الأفلام تتحمل الكاميرا القسط الأكبر كي لا تقول ما يحدث بل تقول المعنى الفني من الحدث، إنها الرحلة النفسية الى الباطن وهجر للعالم الخارجي لرصد ما ينعكس في باطن تلك النفس. هذه الأفلام برأيي لها تأثير شديد على المشاهد الذي أحيانا لا يدركها، وكما هو تأثير الأحلام التي تبقى في أعماق اللاوعي ولا يشعر صاحبها بها وأنها هناك وتصعد الى السطح حاملة أحيانا معها رسائلها الخاصة التي ربما هي اندفاعات نحو التحولات المنتظرة.
فيلم البؤساء، للذي لم يقرأ الرواية، هو فيلم حب بامتياز، بين كوزيت وموريس، وبين فونتين التي ترحل في بداية الفيلم وجان فالجان الذي يبقى ملاحقا من قبل رئيس الشرطة، وبين هؤلاء ستكون الثورة الفرنسية التي تتوالف مع الثورة السورية، مع اختلاف العصر والتقنية والقوة والجبروت وطبيعة المجازر. كان الحطام في الفيلم هو خشب وأثاث وبضعة قتلى، منهم إيبونين التي أحبت موريس، لكنه لم يبادلها الحب، فقررت بعد أن كانت الطريق له للإلتقاء بكوزيت ابنة جان فالجان المتبناة بعد رحيل أمها فونتين، الانضمام الى الثورة الفرنسية وتقديم حياتها في إحدى المعارك الذي يصورها الفيلم على أنها معركة واحدة.
حين تتزوج كوزيت من موريس يرحل جان فالجان، يذهب إلى دير كنيسة كي يحتضر هناك، وكما تقول الرواية، تأتي كوزيت مع موريس إليه في اللحظات الأخيرة، لكن أيضا ستكون إلى جانب جان فالجان فونتين التي تقدم يدها لحبيبها كي تنقله إلى عالم الفردوس، أضواء الثريات التي هي نجوم معلقة، ثم ينتقل المشهد إلى الثوار الذين سينضم اليهم جان فالجان مع فونتين ومن قدم حياته في سبيل فرنسا، يحملون أعلام الثورة إلى جانب نهر السين، يلوحون بها وينشدون أحلام الثورة ونداءها ‘هل تسمع غناء الشعب’ وكأنهم مازالوا يشاركون الذين مازالوا على الأرض بالنضال من أجل حرية فرنسا، اشتراك مثير يبعث على الشجن أن يبقى شهداء الثورة في المكان الذي استشهدوا فيه لا يغادرون الوطن، يناضلون بأرواحهم حتى تنتصرالثورة.
وهذا يحمل مغزى ذا قيمة بالغة في جوهر الثورة، فهي التي ظن البعض أنها انتصرت في أول أيامها، لكنــها كمـا تقدمـها رواية / فيلم البؤساء ماتزال في مخاضها تناضل وتستمر. يفتتح العمل السينمائي الحدث على الثورة الفرنسية نفسها بالقول ‘بعد مرور 26 عاما من قيام الثورة الفرنسية ينصبون في باريس ملكا’ وكأن الثورة ما تزال تراوح في مكانها، وينتهي الفيلم بانتصار متوقع يرفع فيه الشهداء مع جان فالجان، وفونتين، والملتاعة إيبونين التي قدمت مشهدا فريدا في الحب من جانب واحد، بين قطرات المطر، وشذارت الضوء المذهبة، وسواد خصائل شعرها، ودموعها، ودمها المتدفق من صدرها، تقدم لموريس الذي أحبته رسالة كوزيت التي احتفظت بها غيرةً تدله فيها إلى مكانها للالتحاق بها، يتتبع في ذلك خطواتها على درب جان فالجان الهارب…يرفع الجميع أعلام الثورة، أن تسمع باريس أصواتهم، نشيد الشعب الذي سيقول كلمته ليس من أجل فرنسا فقط بل من أجل أوربا كلها. وهي الثورة التي تشهر الدراسات إنها كانت الأساس في قيام الحضارة المدنية الغربية. تم بواسطتها لئم الجانب الرعوي بالجانب المدني كي تقوم بها مدنية مازالت حتى اليوم مضاءة بالذكاء الإنساني.
العالم أو الواقع قبل أن يكون واقعا ملموسا، هو فن وتيارات نفسية تتشكل في البدء داخل النفس الفردية والجمعية كي تعلن في النهاية عن وجودها متجسدة في المادة والعالم المعاش. ومن الضروري لمس القيمة الفنية لأي خطوة يخطوها المرء، ففيها النتيجة، من خلالها يتم استشراف المستقبل. الفن والشعر هما الحلم الجمعي الذي يكشـــــــــف عن آمال الشعوب وتطلعاتها التي هي بالأساس كامنة في نفوس الشباب وتظهر على شكل اندفاعات أولية لا تستمر في البدايات لكنها بعد حين ستظهر بقوة معلنة عن إرداتها في التحقق.
القدس العربي