بشير البكرصفحات الثقافة

باب البيت/ بشير البكر

 

 

ندخله بلا مفاتيح

لا جرس…لا إنذار

هنا البيوت مفتوحة

يكفي أن تمر

أن ترتقي العتبة

لا ترش الماء خلفك

كي لا تطرد الملائكة

كبرنا مثل فراخ البوم وطرنا، لم ينتبه لنا الآخرون إلا حينما صرنا نقف فوق الأغصان وننوح كأننا ننذر بالخراب. لا أحد اهتم بنا، ولدونا وتركونا في أرضنا. كيف عشنا. كيف كبرنا. كيف لم نمت بالحصبة والجدري وأبو صفار؟ لا أحد لديه إجابة كافية. مجتمع رؤوس بلا أجساد، وأجساد بلا رؤوس. وليس غريبا أن ينفصل هنا العقل عن الجسم، يحتل كل منهما مجالا مختلفا لا علاقة للأول بالثاني.

مثل فراخ البوم التي يتطير منها الناس، حتى أهلنا لم نعرفهم جيدا. مات أبي ولا أتذكر أنه قبّلني أو مسّد شعري بيده. أما أمي فلم أتعرف عليها جيدا إلا حين غادرتُها قاصدا حلب للدراسة الجامعية، هناك اكتشفتُ أنها أكثر من أم وأب، هي عالَمِي وألَمِي.

حين قصدت الجامعة، كان إحساسي بأني فررت كما نقول بالعامية لفعل طار. فرار من شرط قاس وتحليق نحو البعيد. البعيد فقط من دون هدف محدد مثل فرخ البوم في العشيات، يطير في اتجاه الليل، ثم يهتدي بحدسه إلى مكان خاص.

هناك أجيال ولدت هكذا مثل قمح الجزيرة… يرمي الناس البذور وينتظرون المطر.. فإما أن تموت الحبة أو تعطي محصولا وفيرا، والمحاصيل الوفيرة كانت هي الغالبة، وقليلة هي سنوات المحل. ولم يعرف الناس الجدب إلا مع ظهور السياسة وفي فترة بدايات الوحدة مع مصر على وجه التحديد، وهي نفس السنوات التي صار أولادهم يحلون في السجون، ضد عبد الناصر أو مع البعث أو الشيوعية، ورغم مرور أوقات صعبة في بداية الستينات، أي سنوات الجراد، فإن سنوات المحل الحقيقية هي سنوات البعث التي دامت نصف قرن، وحولت الجزيرة الى صحراء

هناك أجيال ولدت هكذا مثل قمح الجزيرة… يرمي الناس البذور وينتظرون المطر.. فإما أن تموت الحبة أو تعطي محصولا وفيرا

” قاحلة. جف الخابور، شريان الحياة الرئيسي، وضمرت الحياة في عموم الجزيرة، وحتى البيئة أصيبت بنكسة كبيرة.

كان البيت جار الخابور، كأنه شريانه الرئيسي.

كانت جالسة هناك قرب باب الحوش في ظل شجرة الكينا، والتنور إلى جوارها، غير بعيد عنها مجرى نهر الخابور. لها هالة شخصية من شخصيات الميثولوجيا، وحزن الزمن نفسه.

حين أغلقت باب البيت خلفي، شعرت بأني ذاهب إلى وليمة أقامها الشيطان للصوص والنهابين، وأني سأصل متأخرا، لن أدخل بسهولة، لن أجد كرسيا شاغرا، وحتى بقائي واقفا ليس مرغوبا فيه، لأن الوليمة مخصصة لانتخاب أفضل اللصوص. وذات يوم أبديت تأففا بعد أن اجتزت حاجز شرطة الحدود، فالتفت إلي كهل لبناني وقال، في اليوم الذي يضع فيه الإنسان قدمه على سلم الطائرة، ويغادر البيت، عليه أن يحتمل كل شيء.

فرار من تلك البلاد. الفراري هو الشخص الهارب من العدالة. وكنا نسمع لفظة فلان عايش فراري، أي أنه خارج على القانون، ومن يخرج على القانون لا يستطيع أن يحتفظ بعنوان ثابت. كل يوم في مكان جديد. ومن لا بيت له عينه لا تنام.

البيت مكان يشغلني من دون أن أحس، كثيرا ما غادرت منازل، ولم أشعر أني أحبها إلا بعد أن تركتها، ليس هناك أي تفسير لهذا الشعور سوى أن المرء يخلّف شيئا من ذاته في المكان الذي يسكنه، وهو عندما يشعر بحنين للمكان فهو يتوق للعودة إلى نفسه. منذ فترة خطر لي أن أكتب بتوسع عن البيوت التي سكنتها في باريس، وحين باشرت تنفيذ هذا الخاطر، ذهبت لأول منزل سكنته، لكني فشلت في دخوله، ولم أتمكن من صعود الدرج. وما أن اقتربت من المكان حتى تفتقت حواسي كلها وعاد بي الزمن للوراء. توقف تنفسي وأحسست بحنين جارف، عدت خلال دقيقة قرابة 30 سنة. ولم أتخيل أن وقع المكان ثقيل إلى هذا الحد.

قررت عدم إكمال الزيارة، ولم أدخل المنزل. اعتراني خوف شديد. وقفت بالباب مترددا حتى وجدتني أستدير وأعود من حيث أتيت. ومن الشارع ألقيتُ نظرة سريعة نحو الشبابيك وأنا أغص برائحة هواء عتيق، يأتي من بعيد.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى