باب توما: أحب الحياة!/ كارمن جوخدار
“ليتني حصاة ملوّنة على الرصيف.. أو أغنية طويلة في الزقاق.. هناك في تجويف من الوحل الأملس.. ليتني وردة جورية في حديقة ما.. يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار.. أو حانة من الخشب الأحمر.. يرتادها المطر والغرباء”، يقول الشاعر محمد الماغوط في قصيدته “أغنية لباب توما”.
في تلك البقعة من الحضارة، “حلوه عيونُ النساء في باب توما” حين يسرن بكامل أناقتهن، عائدات بعد سهرة، في أزقّتها الضيقة، بعد منتصف الليل، بالرغم من الحرب وقذائف الهاون التي لطخت شبابيكها بالدم.
في باب توما، التي كانت تصدح، صباحاً، ترانيم من كنيسة القديس حنانيا (أقدم كنيسة في العالم) فيما ترتفع الموسيقى ليلاً من الحانات، “الأغاني أصيبت بحنجرة لا تغني” مع سقوط قذائف الهاون والتفجيرات الدموية التي استهدف أحدها الكنيسة المريمية للروم الأرثوذكس في منطقة باب شرقي. إلا أن السكان اعتادوا “مطر” الهاون؛ يرتادون سوق القصّاع في النهار ويخرجون في الليل إلى المقاهي والحانات.
“وصل معدّل القذائف إلى ما بين 15 و20 قذيفة يومياً على باب توما بين تشرين الثاني العام 2013 وكانون الثاني العام 2014، بالإضافة إلى حوالي 15 قذيفة يومياً على جرمانا” يقول نويل خاروف، وهو صاحب حانة في باب توما، مشيراً إلى أن “الأهالي كانوا في البداية يصابون بحالة رعب وتفرغ الشوارع، أما اليوم فباتت القذائف أمراً عادياً ينتهي أثره خلال وقت بسيط”.
ويضيف نويل، وهو طبيب أسنان، “فعلوا كل شيء، وبقينا. إرادة الحياة فينا أقوى من الموت الذي حاولوا بثه. أحياناً كنا نرفع الموسيقى؟ نغنّي أكثر ونرقص، حين تسقط القذائف؟”.
يقول ممازحاً “المنزل الذي قبل الحانة كما الذي بعدها تعرّضا الى قذائف”. يستجمع الشاب، الذي تحوّلت حانته إلى حضن للشباب السوري الذي يعاني خلال هذه الحرب، “أنا في منزلي وما زلت أعمل. ارتفاع الأسعار أو حتى انقطاع الكهرباء أو حتى القذائف امور سهلة أمام التهجير. هناك جندي مرابض منذ 3 سنوات على الجبهة لم ير عائلته دفاعاً عني”.
من جهته، يشير ساري إلى أن “قذائف الهاون لا تستهدف مناطق معينة، بل تضرب بطريقة عشوائية”، معتبراً أن “هدف القذائف كان الضغط على الأهالي ليطالبوا الجيش السوري بالانكفاء. إلا أننا ثابتون أمام قذائفهم التي تقتل البشر، إلا أنها لا تقتل روح الحياة التي فينا”.
يقول ساري، الذي يملك واحداً من أقدم المطاعم في دمشق القديمة، “لن نقفل محالنا. أصلاً لم نفكّر بالأمر يوماً”. ويشير إلى أنه لدى سقوط القذائف يحتار أحياناً برفع صوت الموسيقى أو خفضها، وإلى إمكانية أن يكون هو أو عائلته في أي لحظة هدفاً لتلك القذائف “لذلك، لم نعد نكترث لقذائف الغدر، فالحياة يجب أن تستمر، حتى أن المتضررين من القذائف غالباً ما يأتون للسهر معنا متناسين ما جرى قبل ساعات”.
يخبر الشاب، الذي لم يغادر حارات دمشق القديمة مثل كثر من سكان المنطقة منذ بدء الأزمة، أنه “قبل الأحداث التي عصفت بسوريا لم يكن يعرف طائفة أي من العاملين معه، فقد كان يتلقّى رسائل في الميلاد كما في الأضحى”. ويستعين بمحمود درويش مختصراً “نمشي إلى غدنا واثقين من الشمس في أمسنا”.
في باب توما، تنام وتستيقظ على أصوات الاشتباكات في جوبر، التي تبعد كيلومترات قليلة عن ساحة العباسيين وسط العاصمة دمشق، وهي ملاصقة لمنطقة الزبلطاني القريبة من أحياء باب توما والقصّاع.
في باب توما، يسبقك قلبك في الأزقة الضيّقة دليله عبق البخور الفائح من المنازل.. هناك فقط تردم الهوات في أعماقك، وتستعيد بعضاً من شتات روحك.. هناك تكسر قلقك ابتسامة طفل ذاهب إلى المدرسة.. هناك تنبت لك قلوب بحجم الياسمين.. هناك يتقدّس النبيذ ويتغيّر طعمه.. ترفع كأسك وتشرب نخباً، وتقول “وان ما سهرنا ببيروت منسهر بالشا
النهار