باب شرقي.. ما سيمضي دون عودة/ علي محمد سليمان
باب أم قوس، تلك العتبة؟ آثار العبور واضحة دون أدنى شبهة من يقين. الجسد فصيح في حيرته كضوء ينكسر في حرير سيدة تجرجر وراءها ثلاثين قمراً وهي تعبر الزقاق المحاذي لكنيسة الزيتون ثم تنعطف يساراً باتجاه الشارع المستقيم. حيرة العتبات تلك واضحة كالحجر، هناك حيث ينهض القوس كائناً قلقاً يحدق في شرق الصحراء البعيد.
“باب شرقي”، هكذا يسمي الدمشقيون أحد أبواب مدينتهم السبعة بخفة تدهشه لأنها لا تنتبه إلى أي من النبوءات أو الغوايات أو حتى الهواجس التي تداهمه كلما استعاد لفظ هذا العنوان الغامض مشدوداً على قوس من القلق المستكين إلى بداهة الحجر المعلق أعلى الأعمدة. بداهة تتلاشى عندما يقولون: نلتقي عند القوس مفسحة المجال لبداهة أخرى تشبه الحيرة. القوس جهة لقاء أكثر ألفة من الأسماء والخرائط. “أراك عند القوس”… هكذا كان يقول لها.
*
كان علينا أن نعبر القوس إلى زمن أعمارنا العجول. أقول قوس شرقي وتقولين باب شرقي. سنختلف كثيراً حول اسمه. حذلقة الأنثروبولوجيين كانت مسلية في أوقات الضجر وأنت تحصين إصابات الحب في جسدينا وبقايا الحضارات في هياكل الحجارة. القوس المرفوع يشخص شرقاً صوب تيه الصحراء وأنت تقولين أنه باب.
-ليس باباً. إنه قوس.
-بل باب… بابٌ شرقيٌ ندلف منه أول الليل إلى الزمن. باب نخرج منه في آخر الليل إلى كمائن أجسادنا…
-قاب قوسين أنا أو أشهى مما تريدين كلما عبرنا تحته. قوس هو. قوسٌ شرقيٌ بين ضفتي نهرك على تخوم صحراء حضارة مسمومة.
-بل باب لتدخلني منه. بابٌ شرقيٌ تدخلني فأوصده وأنت فيَّ دون التيه الممتد شرقاً.
*
في الحرب دخلنا من أكبر الأبواب السبعة خائفين وانتبهنا إلى ما سيمضي دون عودة. في الحرب عبرنا وعيوننا تنظر خلسةً إلى الأشباح في الأفق الممتد شرق القوس. هجسنا بالسموم ونحن ندلف من الباب الشرقي إلى وقت البداهات القتيلة.
هكذا، اكتشفنا فجأة أنه لم يعد هناك من بداهات في الحرب وأن كل شيء جديد ومختلف. حدث هذا أول مرة في عذابات التحقق حين فعلنا الحب تحت البيانو وانتبهنا بينما كانت دمشق تُقصف أنه كان بيانو، فعلاً كان بيانو ولا شيء آخر غير البيانو. كان الضوء ليلتها أعمى والروائح تقوده إلى وميض رطب لينكسر بين قوسين مفتوحين إلى آخر المعنى. لم يكن الشارع وقتئذ مقبرة ولا أفعى، كان مجرد بلاد تحترق ونحن نراها في وضعية مرتجلة تحت البيانو.
إلى الشرق من الباب، تماماً في الجهة التي كان يشخص إليها القوس كانت ضواحي العاصمة تهجس بما تهذي به الذئاب عن وحشة الجغرافيا.
هناك لم يكن ذلك الرجل وحيداً في ظهيرة اليوم التالي لحريق البيانو حين دنت السماء منه. الماء المتطاير فوق أوراق النباتات اختلط بالكائنات والروائح التي أفلتت من بين أصابعه، بقايا حبر وعطور وخطوط رسم غير مكتمل. الماء المتدفق بلل الهواء اليابس وثياب الرجل والتراب. وحدها القذائف كانت تمر قريباً دون أن تعبأ بحديقة الرجل المبلل. كانت تطارد ظلها لتقع عليه في تلك الظهيرة بينما نبتت حروف من ماء في الحديقة وتسلقت جسد الرجل.
*
ما الذي حدث في تلك الظهيرة؟ هل مات الرجل الأربعيني الذي بحث طويلاً قبل الحرب الأهلية عن كشف أنثروبولوجي في جسد عشيقته وهو يسقي شجرة الكرز في الجهة التي ينظر إليها باب دمشق الشرقي؟! وما علاقة جيورجيان هابرماز بحكايته؟!
في أحد أزقة القشلة الضيقة وجدنا مقهى مناسباً للتفكير في هذا السؤال. القهوة مشروب الحداثة في تاريخ أوربا، هكذا يقول هابرماز. لم يكن للمقهى نوافذ كبيرة نستطيع من خلالها التلصص على سؤالنا ونحن نرتشف القهوة ونقارن نسبة الهال في البن مع نسبتها في فناجين المقاهي المجاورة.
هل تعلمين أن في القهوة ثمانمئة عنصراً كيميائياً! حسناً، هذه غواية تناسب المزاج التهكمي لسيدة ولدت داخل أسوار المدينة القديمة في بيت أصبح الآن مطعماً إيطالياً وهي تثرثر عن قذائف الهاون وماركسية هابرماز الذي كتب أن الحداثة الأوربية تزامنت مع دخول فنجان القهوة إلى الفضاء الاجتماعي.
تماماً، هكذا تحدث الكوميديا في الحروب، كائنات قتيلة تجلس مثلنا في مقهى وتثرثر بجدية عن “الفضاء الاجتماعي”! أتتذكرين صموئيل بيكيت؟ كم سيكون المشهد مسلياً لو أن حبل بوزو كان طويلاً بما يكفي ليشرب لاكي معنا فنجاناً من القهوة!
*
سيحدث كل شيء هنا. نختلف في عبورنا إلى خارج الأسوار. تقول روايتك أننا نخرج من الباب إلى كمائن أجسادنا وروايتي تقول أننا نعبر قوس الحيرة إلى يقين الحرب. ما الذي أتى بنا إلى هنا، حكمة الخوف أم طيش الإيقاع؟! لسنا هنا، هذه المدينة موحشة دون مهرجين.
هذا المسرح مزدحم بالممثلين وحذاؤك يتحرش بخطوط التماس بين الحكايات. أين البهلول؟ ماذا لو قتلتنا الحرب الآن قبل أن تنتهي؟! هذه ليست حكايات.
لو يصمت حذاؤك قليلاً فأسمع ما يقوله لير وهو يغادر باب شرقي وينعطف إلى ساحة العباسيين ثم يمشي إلى أوتستراد حمص؟! أليس ذلك قفراً مناسباً لمشهد العاصفة؟! فقط لو يصمت حذاؤك لأسمع ما يقوله لير في هذه العاصفة!
العربي الجديد