باتريشا/ الطيب عبدالسلام
باتريـشا…الغزالةُ الخضراء…”الي روح معين بسيسو في العالميَن”
“تجتهِدُ المُفرداتُ لِتري…أجتهِدُ انا لِا تذكر!!!”
“قطراتُ الدمعِ…
قطراتُ المطر…
من فينا يُمطِرُ اكثر؟؟”
السماء تودِعُنا بامطارِها الاِستوائيةِ المُعتقة،والثكناتُ تُفيقُ من سهدِها الطويل فينا، هاهي الذكرياتُ تتسللُ مِن الاماكِن لتِراوِغَ لا معنانا المقيت ككُل الكائناتِ الهِيوليةِ النقية”..
كان كائنك الداخلي يا “تَمومةْ الجِرتِق”* يُمارِسُ هزيانهُ الدائم، من دونِ ان يجروءَ علي مسكِ القلم… الخريفُ ما زال في خريفِ فصلِه، بينما تتعالي صرخات الشجرة “المجنونة”* وكأنها دخلت لِتوها خلوةَ الاُلوهةَ…او رُبما مسها داءُ العِشقِ فصارت كما ترى منكوشةَ الاغصان والفُروع….الخريفُ عيدٌ كونيُ للاشياء…اِلاكَ يا حرازة* الشمال.
سينتهي خريفُك يا تمومة الجِرتِق قبلَ اواناتِهِ التي عِرفها…اعرِفُ ان المكان تمكن منك ولكنها حالُ العساكِر والعُلب المُصفحة التي تتبعُهُم اينما ساروا..
بِخفةِ الغزالِ الاخضر تُعانِقُك باتريشا عِناقا لاهوتِياً، كأنكُما اِلتقيتُما اولَ مرةٍ كنِقاطٍ صغيرةٍ جِداً في احدِ سُطورِ الاتفاقيةِ الملحميةِ التي اوقعوا بسببها بِكُم…بصقتَ “صعوتكَ” في مقت.. تمتمتْ…
– “اتحتاج هذه الاوراق خمسينَ عاماً من الموت؟؟؟.”
توغلتِ الكتيبة..توغلَ المكانُ فيك..توغل الاخضرُ الذي يرتديكَ في عينيها…”الغزالةُ الخضراءُ التي انبجست مِن ضِلعِك الاخضر!!”…وبينَ فوهةٍ وفوهة رأيتهُم و رأوك…بعضُهُم يُشبِهُك وبعضُك الاخرُ يُشبِهُ بعضهُم الاخر…لم يكونوا شياطيناً حُمراً كما توقعت…تعانق الفيلقان..فيلق المسلمين بِفيلقِ قُريش الزُنجي الاسود…
عُشرونَ عاماً او يزيد كُنتَ تُصوِبُ حواسكَ الرصاصيةَ نحوهُم..واقِفاً علي شفا طلقةٍ طائشة.. بينما ظلت صرخاتُ “ابو حمزة الانصاري” تُطارِدك حيثما سميت :
– وسارِعوا الي جنةٍ عرضُها السمواتُ والارض…حورٌ مضروباتٌ في الخيام.. مُدخناتٌ محنناتٌ مشويات محشيات.
همُك المشترك مع اغلبِ ابناء الكتيبة أن تحصل علي نجمةٍ في عِزِ الكتف تقيك “نرفزةَ” الصقُورُ والسيوف والدبابير…ضحِكتَ في عز المعركة…واصلت سردكَ الداخِلي..”حتي الملائكة الواقفين علي كتفِي يخجلونَ مِن هذين الشريطِين الذين لا يعصِمانِ من صول او مُقدم”…وحينما يائستَ مِن نجمةٍ عِز الكتف قُلتِ في لا اِكتِراث :”حتماً اولُ النُجومِ دبورة”,,صِرتَ الان تمتلِكُ دبورةً مُدورةٍ كالقمرِ ليلة القدرِ الكتفية…ليت اُمك “خادم النبي” رأتكَ..!
فنتِ الكتيبةُ في كمينٍ برِمائيٍ جوي..الناجون قالوا: اِنها نيرانٌ صديقة…المُؤمِنونَ قالوا :
أن السماءَ اخطاءت في قِصفِها الكُفار فقصفتهم هُم كنوعٍ مِن الاِبتلاء لأن الله اذا احب عبداً ابتلاه لكِنهُم سيُراجِعونَ الامرَ مع منادِيبِهِ في الصُفوفِ الخلفية.
بعد شهر اتي المدد الفٌ من طلبةِ الجامِعاتِ والشبابِ مُردفين..بعضُهُم كانَ طبيباً ومُهندِساً وبعضُهم جاء بِمحضِ اِرادةِ دفارِ الخِدمةِ اِلالزاميةِ الذي خمشهُ فِي اِحدي كشاتِ التجنيدِ الاجباريِ المحمومة…لكِنهُ لم يُكن يرغب في الموت باي حال..سحبتَ نفسا طويـــــــــــــــلاً مِن رياحِ الاِستواء الصباحية الفردوسية ثم قُلت: سيُضيعونَ شبابهم ولاشك؟؟”
تساقطوا امامكَ مِثلَ الجراد بِذاتِ الحماس الا مُتناهي الذي ابدتهُ الاغلبِيةُ مِنهُم للموت..سقط أحدُهُم علي كتِفِك..عيناهُ البُنيتان لحيتهُ الرضيعة المازالت في بواكِيرها..جبهتهُ المتورمة,..بكيت عليه…معه…مسحت علي وجههِ ببرودٍ ساِخن.. تعلمتهُ كفُك مِن قعرِ البُندقية…واصلت غيك الداخلي….” يا ولدي الجابكَ لِلموت شِنو بي رِجليك؟؟..وا وجعةَ اُمك وابوك..وا حُرقة حشاهُم”..رسمت علي شفتيه قبلة عميقة…وأختلطت كلتا الحالتين في لحظةٍ واحدة….عبثكَ القديم بِابناءِ جِنسِك..ونقائِك الا مُتناهي تُجاههُ..احالوك اِلي مجلِسِ التحقيقِ والتدقيق…اِستغفاراتٌ موتورة ولعناتٌ مُتوتِرة وطرقعاتٌ محمومة…تسد عليك مسامَ هذهِ الخيمةِ التي اِمتلاءت ..صُقوراً وسيوفاً ودبابيراً…اِقتلعوا دبورتكَ التي صارت تكويناً عُضوياً مِنك..وارجعوك الي عالم “الشرايطِ الوردية “.. الي ايام الفتيات الصغيرات..حيث كنت وكن.
قُلت لها في عمرٍ كان في مِثل هذا الجو: ما احلى الشريطين الورديين علي شعرِك…طوقتك بصمتها وطوقك شريطيها الي يوم يبعثون…
ضربتَ كفاً بِكف قُلتَ سِراً ” ولكِنهُم مُثيرون ليس ذنبي، ان يولدوا شهيين هكذا..ليس ذنبي!!”..البعض قال انك تُحب الظُهور وتكرهُ الظهور..الاخرون قالوا: بل هو مرض جماعي…
كفكفت سفتكَ* الطينية المعتقة..اهلت علي بنات افكارك الوليدات تراب النسيان..فمُرتبكَ حتماً لن يكفي لاِطعامهِن جميعاً، وأِن خرجنَ الي شوارعِ السُطور فسيجلِبن العارَ والمهانةَ لاجدِادِك في لحدهم ولاحفادك في مهدِهِم…وحتى حينما تأكدوا وتأكدت لم يجروء احد علي فصلِك…فانت يا “تمومةَ الجرتِق” كُنت مخلِصاً جِداً في تحضُرِك اللحظي لِلموت..لم تُساوي عِندكَ الدُنيا اكثرَ مِما تُساويهِ فيها..صفرا مهملا في عدد لطالما ظل الراديو يردده…
-“لدينا عشرين الف..بل مئة الف هذا غير الملائكة والجن المسلم”..أِحترت جدا في تصنيف نفسك وفق هذه الثلاثة انواع لكِنك تشعر بحنين قريب الي كونك جن مسلم…لأن الملايكة لا ياكلون البصل ولا يدخنون السيجار ولا يسِفون الصعوت ولا يحبون الظهور.
هاهو ذا انيسك المعدني..يتردد في بثك الحانك البعيدة..تغرق موجاته في بحر الغيوم المتوترة..:
“كان ذلك مطلع حلم*
/وكان اخضر/ كُنتَ مُكللاً بِها /وبِلا امد…”…
اِنطفاءتِ البنادِقُ ليلتها باكرا بينما علت تكبيرات الصفوف الخلفية بالتهليل والصراخ حتى أختنق الراديو وتوقفت بطارياته عن الصبر….ليلتها تعانقت الفوهات اللدودة..جاءت السيوف والصقور والكروشِ المُمتليئة والعيونِ التي تدورُ في الِاتجاهاتِ الاربعة..كتبوا اسماءهُم نيابةً عنكُم، وعادوا الي حيث اتوا…
ضربتَ الارضَ بِكلتا قدميك..كانوا سيُقلِدونكَ وِسام “الثور المقاتل” من الطبقةِ الاولى…
لولا أنها مرت لحظتها علي بُعد ميلين منك..سمِعتَ خطواتها الرياحيةَ البارِدة…دفعتهُم مِن امامِك وركضتَ بِاتجاه الصوت…قال البعض: جُن الثور..الاخرون قالوا: أنها فرحة متطرفة فهم يعلمون جيدا احلام يقظتك المريرة بِهذا النيشان فلطالما سمعوك تردد مترنما:
-” لمن ابقي تور من الطبقة الاولى واللهِ انطح ليكم النجوم دي نجمة نجمة”
….تفاجاءتْ بِك.. بِسجودك الكُليِ تحت قدميها…مدت يديها الخضراوين الي وجهِك فصار مُضيئاً،
الى قلبِك فدرت دقاتُهُ هُدواءً بطعم الخمر…رددتْ في خوفٍ خجول:
– انا باتريشا،أِبنةُ السماء…
قبلتها بِحُرقةٍ علي قدمِها…غيك الداخلي اندفع خارجا ناحية لِسانٍ ادمنَ الصمت:
– الغزالةُ الخضراء..اِبنةُ اِلاله…
نظرتْ اِلي الاُفق…رددتْ في حُزن: يبدو انها ستُمطر…نظرتْ بعدها في حُب، قالت: يبدو انها ستُزهِر ..نظرت بعدها في غُموض لم تقُل: يبدو اننا سنبحر…تكومتَ فوقها كالقتِيل..انبعثتْ اُغنيةٌ لا مُناسبةَ لها من مذياعك الداخلي: “خفيفاً، لطيفاً…خفياً نقياً..”..احسستَ بِخفةٍ في كُلِ شئ وكأن العرقَ المُنسرِب مِنك غسلَ روحك بالمِسكِ الاخضر تخففتَ مِن التُراب..تخففتَ مِن الماء…تخففت مِنك…ذُقتَ لِذةَ الهواء البارِد الذي يهُبُ علي كُنه اِنعدامِكَ الخفيف.
كتبتَ في غيِك الداخِليِ عنها: “عيناها اشدُ اثارةً واستدارةً من ردفيها…ردفيها اكثرُ اِدراراً مِن نهديها…نهديها……….شفتاها الذ من اشجار المانجا والانناس…غزالة بكل الالوان”….واعدتها ثلاثين يوما وازددتَ عشراً..طُفتَ معها..الاحراشَ والغابات حلقتَ معها بين النُجومِ والمجرات والوُحولِ والشلالات، غُصتما في النيل ووُلِدتُما مِنهُ سمكتينِ..ضفدعينِ…ملكينِ…أدميين…علمتكَ الحُب اللدُني وعلمتها انتَ كيفيةَ تشغيلِ الراديو وقِرأةَ الساعةِ والتحدُث في جِهازِ اِلارسال…امتلاء ثدياها بِالحليب على الرغم من أنه لم يكن ثمة طفل …قالت لك: يبدو انكَ المسيح ولاشك…سقتك من حليِبِها حتي ارتويت، ادنتك مِنها/حتي/تدليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت.
لم يعرِفوكَ حيِنما ارجعتهُم اِلي عِصمةِ ذاكِرتِك،البعض قالوا: أنكَ صَرتَ في سَنِ العِشرين، الاخرونَ قالوا: بلِ ازددتَ عِشرين…احضروا شيخاً قديماً…ارغى وازبد…قال بعدها: لقد زوجتكما علي سنة الله ورسوله!!
ضحِكتْ باتريشا مليا ثُم قالت: الله ورسوله ديل مِنو كمان يا مندُكورو*؟؟؟…نظرتَ الي كرشِها المُستديرِ في حميميةٍ ثُم قُلت: ليسا اجملُ مِنكِ علي كُلِ حال…كظم الشيخ لحيتهُ في جيبِه ورددَ بصوتٍ عالٍ: استغفِرُ الله العظيم وحدجك بنظرةٍ حارة…علت زغاريدُ الوازا* وعلت تكبيراتُ الزملاء…وعلت اغنيات القبيلة الخضراء التي جاءت ببقرها وخمرها….
جاء الطِفلُ الثالِث…والرابع…وباتريشا تصغُرُ عاماً كُل عام….ليلتها وتحت قطيتكما* الدافيئة صارحتها بِما كانت تتوقعه..
سنعود غدا الي الشمال فقد انتهي تفويض القوات المشتركة ولم يعد مرحبا بنا هنا!!!
لقد عرضتُ عليكِ الصحراء فرفضتها وقُلتِ انكِ لن تترُكينَ جزورك عاريةً علي صحراءٍ لم تألفيها!!!
قاطعته في لهفة :
-ولِكن وتنك* هِنا؟؟؟
– هذِهِ الشِلوخ المرسومةَ علي وجهي تنفي ذلِك بِتعصُب..ساعود يا باتريشا لاحملك علي ظهري وأطير بِكِ الي شلالاتِ فيكتوريا العظيمة..،ساترُكُ لكِ الصغارَ…حينما يكبروا قولي لهم أنني لم اُرِد لهُم ان يتسِخوا بِالصحراء.. تركتهُم لِلطينِ…لِلمطر…وللغِزلانِ الخضراء…
هاهي عيناكَ تُفلِتانِ تلاليبَ المكانِ الحميم،وعينا باتريشا المُمطِرتين….وتتورطُ في المدينةِ مُجدداً…قُلتَ فِي سِركِ: يااااااااه عشرون عاما لم اري الخرطوم،صارت البيوت الطينية البيضاء اعشاشا اسمنتية سوداء…بكيتَ حينها بِاحتراق شعرتَ بِطاقةِ ندمٍ لا نِهائية… تورطتَ في الرِسالة..:
الي باتريشا الغزالة الخضراء “لو كانَ اولائِك الانقياءُ الشُبان يعرِفونَ ان الصفوفَ الخلفيةَ خانتهَم وتطاولت في المَؤخراتِ الاسمنتيةِ وأن دمأهم بيعت بجرة لتر من بترول الجنوب…لما ماتوا…لكنهم يا باتريشا كانوا انقي من العيش في الواقع فاختاروا الاحلام…اترينَ هذا الوجهَ الغائصَ بين الالافِ مِن الوجُوه يا باتريشا في هذه الصورة الباهِتة؟؟…أِنهُ انا بِمعيةِ الزُملاءِ ونحن نبدأ انسحابنا الي الفراغ…ايييه يا باتريشا لكم احِنُ اليكِ”…
” في ذات الجريدة طالعت أماني خبر قدوم الجنود من الجنوب ذغردت بفرح دامع: ” راجلي رجع من الجنوب يا نااااااااااس الحلة!!! ”
***********************************
هوامش:
تمومة الجرتق: بمعني تكميل عدد اي شي أخير لتمام الشئ والجرتق هو طقس الزواج الاخير لدي قبايل الشمال والوسط.
المجنونة: نوع من اشجار الاستواء تكون اغصانها متباعدة وغير مرتبة ومنكشة كحال المجنون .
الحراز: نوع من الشجر يزبل مع قدوم المطر.
السفة: هي مسحوق اسود مصنوع من عناصر محلية بغرض الكيف وفكرته كفكرة القات ويسمى الصعوط ايضا.
3: هو مقطع من قصيدة “ثمة حزن..ثمة مريم” للشاعر السوداني: انس مصطفي عن ديوانه “نثار حول ابيض”
مندكورو: هو الرجل الغريب بلغة بعض اهل الجنوب….
وتنك: تقصد وطنك فالجنوبيون ينطقون الطاء تاء لثقلها.
الوازا: الة من الات العزف المحلية الصنع تصنع من سيقان السنابل
22 ابريل2011
الطيب عبدالسلام -باتريشا-النص الفائز بجائزة الطيب صالح