بارات اللاذقية!
هيفاء بيطار
قد يبدو عنواناً «وقحاً» وسورية غارقة في دماء أبنائها، وقد يبدو عنواناً «مُضحكاً» وصعب التصديق! لكن هذه هي الحقيقة فاللاذقية تزدهر بالبارات، ويمكنك أن تقرأ لافتات عملاقة (مطعم وبار) أشعر وأنا أتسكَّع في شوارع اللاذقية بالذهول دوماً، ذهول من يعجز عن لحم أجزاء روحه المتصدِّعة، إن لم أقل المتناحرة! أحاول أن أنفصل عن ذاتي وأن أستعرض حياة تلك المرأة -نموذج إنسان سوري يعيش في اللاذقية – أحاول أن أطرد شعوري الدائم بالتمزُّق والذهول، وذلك الإحساس المستميت أن أمسك طرف الخيط: خيط الحياة التي ضاعت منا، نحن السوريين. أجدني دوماً أتذكر الرواية الرائعة لجبرا إبراهيم جبرا ( شارع الأميرات ) حيث ارتبط لديه التفكير بالمشي. نَبَّهَني هذا المبدع العظيم إلى حقيقة توليد الأفكار من خلال المشي. أستعرض يومي الذي بدأ مع زكريا وهذا اسمه الحقيقي. زكريا نازح من حلب عمره 12 سنة، التقيته في العيادة العينية في المشفى الوطني، كان برفقة رجل اعتقدته أباه للوهلة الأولى، لكن كثافة الحزن في عيني زكريا جعلتني أحزر -دون أن أسأل – أن هذا الرجل ليس والد زكريا. كان زكريا مع مُحسن، هكذا قدم نفسه بعد أن قال لي أن أم زكريا وأباه ماتا في حلب بعد أن سقط عليهما صاروخ. لم تتحرك عضلة في وجه زكريا! وجدتني أردد كببغاء: زكريا والصاروخ! وكي أهرب من وطأة المأساه التي صهرتنا ليس نحن الثلاثة فقط – زكريا والمُحسن وأنا – بل صهرت كل مَنْ في العيادة العينية من مئات النازحين إلى العاملين إلى رائحة زهر الليمون العابثة والتي لا تستحي وتتسلل من النافذة. كلنا صهرتنا رائحة خاصة بسورية، رائحة الموت الوقح والذي لا يستحي من شدة عشقه لسورية. كي أهرب من وطأة المأساة وجدتني أسأل زكريا بلهجة تفاؤل زائفة: في أي صف أنت يا زكريا ؟ فردَّ بصوت كَبَّرَه الحزن: لقد ضاعت عليّ السنة الدراسية. زكريا يحتاج لنظارة ليرى بوضوح أكبر المأساة. زكريا يعيش الآن مع مُحسن، لا أعرف إن كان مُحسناً ولديه أربعة إخوة توزَّعوا على مُحسنين، لا يعيش زكريا تحت سقف واحد مع إخوته، لم تسقط دمعه من عينه، ولم يتذمر، كأنه أذعن أن الحياة هي وحش لا طاقة لطفل على ردِّه، لعل زكريا يتمنى لو كان في حضن أمه أو أبيه حين مزَّقهم الصاروخ شظايا من لحم بشري تطايرت كفراشات من لحم ودم ثم احترقت. أفحص عشرات من النازحين الذين ينافسون مصطفى في مآسيهم، أود أن أصرخ حتى تتقطّع حبال حنجرتي: تعالوا يا صنّاع السينما، وسجلوا أفلاماً وثائقية حيّة في سورية، لن تحتاجوا لأبطال ولا ممثلين. فكلّ شيء متوافر في سورية، أعود إلى البيت ووجه زكريا محفور كالوشم في ذاكرتي، وأجدني أعجز عن إسكات صوت: زكريا والصاروخ الذي يضج في أذني باستمرار. عند العصر أفرّ من المنزل ومن روحي وأتسكَّع في شوارع اللاذقية، هل اعتدت على منظر الحواجز التي تفاجئني كل مرة بجديد. الآن الحواجز أصبحت جداراً من البراميل الضخمة وفوقها طبقة من دواليب الشاحنات الضخمة وفوقها أكياس من الرمل، ثمة شوارع مغلقة تماماً بالحواجز ولا يمكن للسيارات أن تعبرها، ثلة من المجنَّدين يحملون البواريد، يشربون المتّة والشاي. أتابع السير وأتوقَّف أمام بناء فخم شديد البذخ وقد تقدمته يافطة عملاقة (مطعم وبار) يا سلام! لم يسبق أن قرأت اسم بار قبل سنتين ونصف! الآن هذا الاسم يلعلع، يصفعني خيالي بوجه زكريا والصاروخ وبكلمة بار، وتُصاب عيناي بالحَوَل: فعين تتفحص اللافتة الأنيقة (مطعم وبار)، وعين تهيم هناك في القصير وريف دمشق وريف حلب. عين ترى الدمار بأفظع وأوحش أشكاله، وعين تتأمل كلمة بار!. لا يساعدني المشي على لحم تصدعات روحي كما كان يفعل جبرا إبراهيم جبرا. أتابع المشي ووجه زكريا والصاروخ – أعجز عن فكّ التلاحم الوثيق بين اسم زكريا وكلمة صاروخ – يحتلّ خيالي، ويلتصق بكل مشهد حولي، ويزداد التصاقه بكلمة بار.كيف يمكن لزكريا أن يحتمل تلك المأساة الفظيعة، لعله شاهد الصاروخ يفتت جسد أمه وجسد والده. لعله أراد أن يقذف بنفسه معهما صارخاً: خذوني معكما، لكن يداً امتدت وأبعدته. هل على زكريا الابن البار أن يقصد باراً في اللاذقية ليخدِّر آلام روحه؟