صفحات الثقافة

بازل!


إبراهيم حاج عبدي

بمعزل عن الدراسات والاحصاءات ونظريات الإعلام، يمكن متابعَ التلفزيون السوري أن يخلص إلى نتيجة مثيرة للأسئلة والشكوك… هذه النتيجة ينبغي أن تبنى على افتراض يصعب تحقيقه من دون صبر، وهو الاقتصار على مشاهدة التلفزيون السوري دون غيره. عندئذ، سيكتشف هذا المتابع أن سورية تعيش في وئام وسلام، وان الحياة طبيعية في مختلف أرجائها لولا ان بعض «المجموعات الإرهابية المسلحة» تعكر صفو هذا الهدوء، بينما الجهات المختصة ماضية في ملاحقة فلولها!

إذاً، المشهد السوري، وفقاً لخطاب الفضائية السورية، ناقص ومبتور، إن لم نقل إنه مزيف، فعلى مدى نحو عام ونصف العام، استطاع هذا التلفزيون أن يتحصن ضد أي صور لتظاهرة مناوئة للنظام، وتمكَّن من إغلاق باب الأثير بإحكام أمام أي معارض سوري ولو كان يمارس نشاطه في الداخل، وعزَّ على المشاهد أن يجد في الاستطلاعات التي يجريها، رأياً من الشارع السوري يعارض سياسات الحكومة، أو يشكو مما يقوم به الجيش… كل الآراء تنطق بلسان واحد، تشيد بـ «الإصلاح» وبدور السلطات في مكافحة «الإرهاب»، وبجهد الحكومة في حماية المدنيين. ولكن، هل الأوضاع على هذا النحو الهادئ كما يصوره التلفزيون السوري؟

لا يحتاج الجواب بالنفي إلى عناء كبير، فبمجرد الانتقال الى فضائيات أخرى، تصفها السلطات السورية بـ «المغرضة»، سنرى مشهداً آخر دامياً، يناقض تماماً ما يبث على الشاشة المحلية، فسورية على هذه الفضائيات تبدو مسرحاً لعمليات عسكرية ولقصف متواصل ولاشتباكات تدور رحاها في مناطق مختلفة، وسط تصريحات نارية بالتهديد والوعيد من هذا الطرف أو ذاك.

والمفارقة ان السلطات السورية، التي ما فتئت تشكو مبالغات وتضليلَ بعض الفضائيات، مسرورة بأداء فضائيتها المحلية، التي تغيِّب أحداثاً وتركز على أخرى، وتستعين بمجموعة من المحللين السياسيين (!) الذين يؤكدون منذ بدء الأزمة أنها بلغت نهايتها، غير ان هذه النهاية ظلت عصية المنال، وبما ان هذه النبوءة لم تتعدَّ حدود الأماني، فإن كل الكلام الذي قيل لإثباتها لم يكن سوى «بروباغندا» فجة لم تثبتها الوقائع على الأرض.

ليس من اختصاص هذه الزاوية الخوض في القضايا السياسية، وما نسوقه هو لتبيان الدور المخادع الذي يمكن أن يلعبه الإعلام، بيد ان هذه الخدعة لا تقوى على الثبات طويلاً أمام هذا التنوع الفضائي الواسع الذي جعل من «الخطاب الإعلامي ذي اللون الواحد» أمراً من الماضي.

ورغم وجود فوارق مهنية هائلة بين فضائية وأخرى، غير ان الصورة لا يمكن ان تكتمل على شاشة واحدة. على المشاهد أن يمارس ما يشبه لعبة «بازل» عبر متابعة أكثر من شاشة، حتى يستطيع فك اللغز وتركيب لوحة مكتملة واضحة الخطوط والملامح والأبعاد.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى