بازوليني إلى رفيقه: انسَ أنيّ كتبت لك
ترجمة: عمّار فراس
الرسالة التالية كتبها بازوليني قبل الفضيحة التي نالت منه، وهي موجهة لفرانك وفارولفي أحد رفاقه في الثانويّة، وكان فرانك أحد “أعزّ رفاقه”، وبقي يراسله في أشدّ أوقات حياته ظلامًا.
22 أغسطس 1945
عزيزي فرانكو
لم تكن صادقًا معي بشكل كامل في رسائلك، سألتني ما هو ظلك؟ الإجابة سهلة عن هذا السؤال، إنه غياب أخي، الذي دعاني لإعادة التفكير في ذاتي لا على الصعيد الفكري، بل أيضًا على صعيد حياتنا الفارغة التي لا جدوى منها. أنظر إلى نفسي دومًا من وجهة نظرك، وأرى نفسي كأنني في قطار بين كاسارا وبولنيا، ذهابًا وإيابًا، كمجنون حبيس جسده. لكني لا أستطيع أن أقول أي شيء عن نفسي لأحد، لأن كل شيء يبدو متباينًا بسبب الصمت الذي يفصل بيننا، ولا أرى فائدة من حوار ستقطعه سيطرة الموت على أفكاري.
سألتني إن كنتُ سعيدًا؟ وسأجيبك بقولي أنك تتوهّم. أنا تعيس، لكني لست ضجرًا، الحياة تمنحني إحساسًا خاصًا تجاه وجودي اللامتناهي، أحاول أن لا أتجاوز هذه الفكرة وأنساق تجاه البشر أو الإله. أرى أن كل شيء لا متناه لدرجة أني لم أعد قادرًا على التعامل مع أي شيء، سوى إمعان النظر في لانهائيته.
لكن ما لا أعلمه، هو ما الذي تقصده بقولك “ظلك”، فأنت كنت موضع ثقة ذاك المسمّى بيير باولو، والذي ما زال الشخص ذاته الذي عرفته وأحببته في بولونيا، والذي كان بإمكانك أن تعرفه دون استخدام حذلقات لغوية ومعان خفيّة، آه، ولا تظن أني أشغل بالي فيك عن طيبة قلب، بل أقوم بذلك فقط لأني حي، أنا آسف، لأني لا أستطيع أن أكتب لك بصورة عقلانية وواضحة، والسبب هو أسلوب رسائلك، الذي جعلني أعذرك على شكوكك وعدم يقينك في الماضي، لكني ما زالت آمل أن أسمعك تتذمّر وأنت تمشط شعري بمشط الجيب الخاص بك، وأن أراك تأكل العصافير واحدا تلو الآخر، والتي تبدأ عادة بعظامها الصغيرة، إن الشغف الذي يجمعنا لا يتناسب مع حجم الأنانية الهائل الذي يمتلكه كلّ واحد منّا، لهذا، أنصحك أن تقرأ كتاب “الأقوال المأثورة” لروشفوكو، لكن، “علينا أن نحاول أن نحيا”، لا نعلم لأي سبب، (أو بالأحرى أنا لن أعلم إن لم أكتب القصائد)، بعدها، علينا أنّ نربّي شغفنا، الذي يحوي الكثير من الأشياء التي لا يمكن استبدالها. أي الأشياء الضرورية، لكن، هل تبقى على حالها؟
لقد غيّرت طريقك في الكتابة، بالتالي تغير ما يجعلك تبقى حيًا. هذا مبدأ جمالي أؤمن به.(إلى جانب الجمال المطلق، الذي لا نقاش فيه، فالهذيان هو آخر عتبة صوفية والتي نضيعها حينما نصل النيرفانا، الكلمات يا عزيزي فرانكو، أشبه بورقة أو وجه، هي لون وصوت، هي معطى ماديّ، هي صلتنا مع ما لا نعرفه، المجاز، هو ما يقودنا نحو ما وراء ما نراه، أي، خارج ذواتنا، إلى العالم السحريّ).
إن قلقك ذو أسباب أخلاقيّة، وأؤمن أنه يتعلّق برغبة واحدة (أؤمن بذلك لأني أنا أيضًا اختبرته)، وهي الرغبة بأن تكون صادقًا، أريد أن أكون كذلك، وسأكون كذلك دون أي شكّ، إن أعليت من قيمة البشر، لكني أخاف أني لن أكون مرتاحًا بالعيش بينهم، إن كشفت نفسي لهم إثر اندفاع أخلاقي علويّ. فالحفاظ على سرّ يضع من يعرفه في خطر كبير، وإن لم يكن الأمر كذلك، فلن أخاف الإفصاح عن العفن الذي ورثته عن أسلافي.
أنت من دفعني للعودة إلى هذه الأفكار التي هجرتها مرّة وتركتها في المساحة المهملة من حياة الآخرين.
ما يعطي معنى لأيامي العبثية والعاديّة هو شعري ذو المنابع العميقة، إلا أنها جفّت منذ فترة، وذلك لأني لم أتمكن من تحديدها. إثرها دخلت في عالم متوحّش، دون أي صيغة مسبقة، أنا، أعيش في داخلي، وحدة قاسية، لا إنسانيّة، ويوما بعد يوم أسجن نفسي في هذه الصحراء، وحين ألتفت، أرى العالم قد عاد إلى حياده الجوهري الشنيع.
ها أنا أتحدّث عن نفسي، عن بؤسي، إليك، الشخص الوحيد الذي ربما، كشفت الغشاوة عن عينيه ليراني، الصديق الذي ينظر إليّ بأقلّ مقدار من الحياء، أعتذر عن هذا الفيض من العواطف، الذي لن أحتاج له بعد الآن، إلا أن قلمي يخذلني وتنفلت مني هذه العواطف لسبب وحيد وهو أني أكتب لك، أي بسبب أني أريد أن أكون قربك، وحين يكون ذلك، سنقف يدًا بيد، لن أكترث لعشيقاتك الكثيرات، لذلك، آمل أن يكون الأمر مستقبلًا بيننا بعبارات أبسط، ومن الآن، تصرّف كأنك لم تقرأ هذه الرسالة التي أكتبها لك بدافع اللباقة.
أرسل لك قبلاتي الشغوفة
بيير باولو
كل سلاماتي لأسرتك وأرسل الشكر لوالدتك باسم والدتي.
جيل