باسم الإرهاب ..
فواز طرابلسي
في مطلع الحرب الاهلية اللبنانية، روي ان رفعت الاسد نصح الراحل بيار الجميل، في عزّ شهر العسل الكتائبي – السوري، هذه النصيحة: «ضعْ فلسطين على لسانك وعلِّق المشانق!»
سوف نعضّ على اللسان، او الجرح، ونسكت عن دور «فلسطين» في رفع المشانق منذ ذلك الحين. العبرة من النبذة التاريخية انه تجري الآن على اللسان العربي مفردة شكلت احد عوامل استمرارية الانظمة العربية وخشبة الخلاص لمن يريد او من استطاع النجاة منها. فقد باتت المعادلة الآن: ضع «الارهاب»، و«الحرب العالمية ضد الارهاب» على لسانك وارتكب المجازر للحفاظ على نظامك. الغرب يساندك. بل يغضّ الطرف عنك.
تنجح هذه السياسة حينا وقد تفشل احيانا. اعتمدها القذافي وفشل في اللعبة فقذف شعبه بأقذع النعوت واستعاد ضد الغرب مصطلحات الحروب الصليبية.
يزداد اللسان طلاقة ووقع الكلام تأثيرا إذا توافر للنظام المعني بمكافحة الارهاب شرطان اضافيان: مخزون من الاسلحة الكيماوية والجرثومية، يخشى وقوعها في أيد غير أمينة، اي في يد «الارهاب الدولي»، من جهة، والمسؤولية عن حدود مشتركة مع فلسطين المحتلة، من جهة اخرى، خاصة اذا كانت الحدود ممتدة من سعسع الى الناقورة، ومهمة حفظ الامن على الحدود مصحوبة بالقدرة على ضبط لاعب لبناني يصنّف حينا في خانة «الارهاب» واحيانا في مصاف القوة العسكرية «غير النظامية».
لا صوت يعلو فوق صوت الحرب العالمية ضد الارهاب. لا صوت يعلو الا صوت «المصلحة القومية الاميركية». عندها يصير الهدف وسيلة.
والمصلحة القومية الاميركية الآن، الى العوامل السابقة، هي الانتخابات الرئاسية والهدنة النووية مع ايران. ولعل هذا ما يفسّر الوكالة الاميركية الى روسيا والى المؤسسة الاممية في آن معا. الاولى وعدت بمساعدة النظام على انجاز حسم عسكري يطمئنه.
تبيّن ان الحسم اقرب الى «حسم مطاطي متنقّل» يحسم في موقع فيظهر له موقع مقاومة وقتال واحتجاج جديد يحتاج الى … حسم. وهكذا دواليك في هذه الطاحونة من القمع والقتل العبثيين. حتى ان الحسم تمطى واستطال حتى زهقت روح السيد لافروف فأطلق قدرا لا بأس به من الاتهامات والتهديدات للسلطات في دمشق على التباطؤ في الاصلاح وعيّرها تعييراً على مسؤوليتها عن اخطاء فادحة في تلك الازمة، ثم ما لبث ان انكتم لاسباب ليست واضحة تماما. المهم في الامر ان الدبلوماسية الاميركية لم تكن بعيدة عن تسليك مسارات هذا الحسم ومباركتها. فجأة اكتشفت السيدة كلينتون الارهاب. لم تكتشفه طوال سنة في ما تسميه اجهزة النظام السوري «المجموعات الارهابية المسلحة». اكتشفته في ما هو افدح بكثير، متجسدا في «تنظيم القاعدة» وقد «اخترق» المعارضة السورية. وكان ذلك قبل ايام من إطلاق حملة اقتحام حمص.
هذه كيمياء الارهاب تصنع المعجزات. نجحت حتى الآن في نشر طاقية الاخفاء فوق المدنيين السوريين يحتجون ويتظاهرون ويعتصمون ويقاومون ويعتقلون ويجرحون ويعاقون ويختفون ويستشهدون منذ سنة، على خريطة من مئات المواقع في طول البلاد وعرضها.
قد يقول قائل: لكن لا تطابق بين المبادرة الروسية والسياسة الاميركية. صحيح. لكن بينهما تلاقيا كبيرا. فلا تزال الاخيرة تردد بين حين وآخر معزوفة تنحي الفرد لانقاذ النظام. لكن الطرفين التقيا على تجريب مبادرة كوفي أنان بعد ان اكتشفت واشنطن ان صمام الامن لحدود آمنة هو الجيش وان الاساسي في السلطة هو من يستطيع ان يسيطر على الجيش ويأمر الجيش.
استعار المشروع الاممي من المبادرة الروسية فكرة القاء السلاح المتزامن. أخذت المعادلة مسحة من الجدّ عندما تبناها السيد حسن نصر الله ودعا اليها. يسهل علينا تصوّر مقاتلا يلقي بسلاحه، ببندقيته الآلية او نصف الآلية، وحتى بالقاذف المضاد للدروع، والمفهوم ان يلقي سلاحه أرضا. لكن «سيّد المقاومة» لم يشرح لنا كيف يمكن إلقاء الدبابة ارضا؟
المؤكد ان النظام حقق بواسطة المبادرتين الروسية والاممية انجازا كبيرا: الاعتراف بأن العنف الذي تمارسه القوات النظامية ضد محتجين سلميين، كانوا ولا يزالون هم اكثرية المحتجين، يساوي العنف الذي يمارسه مدنيون مسلحون او عسكريون منشقون فرّوا من الخدمة حتى لا يُعدموا «إعداما ميدانيا» لعصيانهم اوامر اطلاق النار على اخوتهم.
مهما يكن، يتعاطَ النظام مع المبادرة العتيدة على طريقة تعاطيه مع ما سبقها من مبادرات. للنظام تفسيره الخاص بكل نقطة من نقاط انان الست. بالنسبة لمعادلة القاء السلاح المتزامن، تتذرع دمشق بعدم تكريس «خطوط تماسّ» بين الجيش النظامي والمسلحين والمنشقين، فتقول بإخلاء المسلحين للشوارع والمواقع التي يحتلّونها والاختباء في البيوت وإعادة وصل المناطق وطرق المواصلات بعضها ببعض شرطا لانسحاب القوات النظامية. والسؤال الغرائبي هنا، كما في كل حالة من حالات هذا المنطق الخرافي في عبثيته: إذ ينكفئ المسلحون، سوف تنسحب القوات النظامية من اين والى اين والحالة هذه؟ وما الحاجة الى انسحابها اصلا ما دام المسلحون قد ألقوا السلاح وأخلوا المواقع التي يحتلونها؟
وما دور المراقبين الدوليين في كل عملية وقف اطلاق النهار والقاء السلاح هذه؟ جواب سلطات دمشق: انهم مجرد شهود على «عودة الحياة الطبيعية».
والامر نفسه ينسحب للمرة الالف على «الحوار السياسي». لم يعد من حاجة للتساؤل علام يتم الحوار وقد اكتملت «الاصلاحات» بصدور قوانين الاحزاب وقانون الانتخابات والاعلام وتكرست كلها في الدستور الذي حسم امره بالاستفتاء، بل تقرر تنظيم انتخابات مجلس الشعب في اوائل شهر أيار المقبل قبل ان يتقرر تأجيلها في اللحظة الاخيرة. معلومٌ ان الحوار، كالعادة، سوف يتم «في كنف الدولة». لكن السؤال: ما دمنا في ازاء «حرب» وما دام وقف اطلاق النار هو مقدمة لـ «القاء السلاح» المتبادل والمتزامن بين البندقية والدبابة، فهل سوف يشارك الطرف الآخر الذي يمارس العنف، في الحوار السياسي؟ وأقصد بالطرف الآخر «المجموعات الارهابية المسلحة»، بمن فيها المنشقون عن الجيش الذين يعدمون ميدانيا حين العثور عليهم، حتى لا نتحدث عن مشاركة مسؤولين في «تنظيم القاعدة» من «المندسين» في المعارضة السورية، بحسب معلومات السيدة كلينتون؟
يتم كل هذا باسم مكافحة الارهاب الذي ينذر بدورة جديدة من الارهاب الدموي في حق الشعب السوري في ظل التدويل الاممي هذه المرة.
لم يكن الشعب السوري وحيدا مرة مثلما هو وحيد الآن. وما من مرارة تكفي للتعبير عن الغضب والعجز عن الفعل، بل عن التعبير.
السفير