صفحات الرأي

“بالخلاص، يا ياسين!” لياسين الحاج صالح مملكة الصمت


حسن الحاف

لا يتركك ياسين الحاج صالح تهدأ أو تستقر فيما تقرأ كتابه “بالخلاص، يا شباب!”. لا أعصابك المشدودة ترتاح، ولو لهنيهة، ولا عقلك المتوقد أبداً، والمشدوه بالفظائع المرتكبة، وبهذه القدرة الفذّة والباردة على تصويرها وعرضها، يروق. تروح عيناك تسابقان عقلك إلى الكلمات والجمل والفقرات التي تشكل نصوص كتابه القيّم، الذي يرقى في صراحته إلى سوية البوح الذاتي لمثقف ومناضل في آن. حتى العنوان المنتقى لا يخلو من حنين ذي دلالة رمزية كبيرة. إذ شكّل لجماعة السجناء طقسهم الخاص الذي لبثوا يمارسونه لأعوام بعد كل وجبة غداء، فيبادرون بعضهم البعض بالقول: بالخلاص يا شباب.

الكتاب، على ما يقول ياسين، لا يندرج ضمن أدب السيرة الذاتية، إنما هو يتناول “ثقافة السجن” و”مثقفي السجن”. وذلك بديلاً من الأدب التعبوي المتمحور حول “فضح مظالم النظام” و”صور المعاناة والألم” التي تشكّل ما يسميه ياسين “أيديولوجية السجن”. بذا، يتبدى، بادئ ذي بدء، أن نظرته إلى موضوع الاعتقال السياسي تختلف في جوهرها عن النظرات التقليدية المهيمنة والمناهج السائدة، وتكاد تكون جديدة كل الجدّة.

على أن أهمية الكتاب تكمن في كونه يصلح، فضلاً عما كتبه أيضاً فرج بيرقدار ومصطفى خليفة، كأساس تاريخي موضوعي لكتابة السيرة الذاتية الوحيدة الممكنة لنظام طال به العمر كمّاً، بيد ان طبيعته وطباعه البهيمية لم تتغير بالمرة تحت تأثير الزمن المتوقف عند أعتاب “القائد الخالد”. والحال أنه ظلّ طيلة أربعة عقود ونيّف من عمره على صورته الأولى، الفجة والطازجة والشاحبة، المضغوطة تارة، والمنفجرة تارة أخرى. كأنما لم يتطوّر النظام الذي يصفه ياسين قط، مخالفاً بذلك سنّة الحياة والكائنات. ففجاجته المفرطة المطعّمة بذهنية سادية طاغية – تتميز بتمثّلها للمثال النازي عموماً – مريضة ومنحرفة. ولأنها كذلك، جعلت من أفانين التعذيب والإذلال دستوراً للحياة، وشرطاً للبقاء غير المهدّد، أكثر مما هي مجرّد نمط حياة فردي أو أسلوب عيش خاص.

ذاك ان انكسار السجين أمام السجّان الفرد، معادل رمزي للانكسار أمام السجان المطلق، النظام. وكلا الانكسارين يرميان إلى ترسيخ نتيجة واحدة: السياسة شأن خاص لخاصة الخاصة (على معنى الطائفة والعائلة). وما على العوام – الجهّال، الذين يشكّلون ما لا يقل عن 99 في المئة من المحكومين، سوى السمع والطاعة وتجديد البيعة، لا أكثر.

السجّان إله لا يحاسب

لكأن السجان، كما يصوّره ياسين، مزيج من عناصر إنسانية وحيوانية في آن تتنازع كيانه على الدوام. لكنه، بعكس البشر العاديين، يغدو إنساناً عادياً ساعة يطلب منه ذلك، ويغدو حيواناً غب الطلب أيضاً. ولا أدل على ذلك، ان السجان الذي تفنن في سجنك وتعذيبك قد تصادفه بعد سنوات على الطريق، فيظنك أخاك (ربما، لعدم قدرته على تصديق أنك قد تنال تخلية سبيل)، فيروح يسألك عن أحواله (أو، بالأحرى، أحوالك). وفيما يسأل بلهفة منفّرة قد يشكر فيك وفي أخلاقك وشجاعتك! وهي حادثة تعرض لها ياسين بالفعل مرة واحدة في أحد شوارع حلب، على ما يروي في كتابه. والحال أنه وجد خلالها صعوبة هائلة في التجاوب مع السجّان، الذي نمّ كلامه عن ود وطيبة واحترام.

ولا ينسى ياسين، من جهة ثانية، ذكر أسماء سجانيه – آلهة السجن وأوصافهم العامة: ابو محمد الثلاثيني من ريف حلب، أبو أيمن الثلاثيني أيضاً من ريف أدلب و”الشديد الطيبة”، أبو عادل “البعثي والمرتشي والمتدين في آن” وأبو أحمد الثلاثيني من ريف أدلب. هذا فضلاً عن أبو جمعة الذي كان أربعينياً “لئيماً بالفعل، متمتعاً بذكاء فطري وشديد الولاء للنظام”، وفارس، أيضاً، “الموالي للنظام عن عقيدة”، وأبو علي “أول رئيس لمفرزة الأمن السياسي في سجن حلب المركزي” “الحصيف” و”صاحب الكأس”، وأخيراً، ابو أمجد، “الرجل الطيب الملوّن الفاسد” الذي “لا يخفي رغبته في الارتشاء”.

“الزمن المعيش بطيء، أما الزمن المتذكر فسريع جداً”، يقول ياسين بلغة حكماء الصوفية. وعندما يشرع في السرد والتذكّر والتحليل بأنواعه كافة، خصوصاً منها الثقافي – السوسيولوجي، تصير تتنقل معه عبر عوالم السجن وخفاياه وأسراره فضلاً عن ألغازه وأحاجيه وصراعاته وأزماته بخفة تكاد لا تحتمل، في أحيان كثيرة. إنها خفة الانسان الذي انعتق تماماً من ماضيه التراجيدي من دون أن ينساه، ومن دون أن يسامح من تسبب به. ولأنه، لا يبحث عن بطولات مصطنعة وبلا طائل، يروح يرويه بأريحية القاص، المستمتع بالقص. فيضيف إلى روايته الأصلية المحفورة في قرارة ذاكرته، تأمّلات واستنتاجات أنضجتها وصقلتها سنوات ما بعد السجن، المتخففة من وطأته. فبرأيه “يحمل كل سجين نزوعاً لا شعورياً للبقاء في السجن أو للاستفادة من ميزات الحياة السجنية المناظرة للحياة الرحمية. قد يتجلى ذلك في تذكير مستمر بأنه كان في السجن، أي في مبادرة السجين الى سجن نفسه في صورة السجين السابق”. وإذ يرفض ياسين رفضاً قاطعاً هذا النمط الاستعطافي في تعاطي السجين مع تجربته، يُخرجُ إلى دائرة الضوء إحدى أعمق خلاصات تجربته السجنية حيث يقول وبإيجاز بليغ ان الشخص الذي يختزل نفسه إلى سجين سابق يفشل في أن يعيد تأهيل نفسه لحياة جديدة وتاريخ جديد. فالسجن قد يدفع عضو الإرادة والقرار عند السجين إلى الضمور بسبب قلة الاستخدام. فيغدو السجين “مثل آدم في قفصه الفردوسي، متحرر تماماً من حريته، وخلي البال عما ينتظره في الدنيا”.

سجوننا تشبه أوطاننا.. تشبهنا

لكن لماذا قرر ياسين أن يروي حكاية السجن أمام الملأ، وأن يحوّلها إلى قضية وطنية عامة، لا مجرد تجربة فردية يثير استذكارها الأسى والمرارة في نفس صاحبها ومن يعرفونه؟

جواباً عن هذا السؤال يظهر ياسين وكأنما استرد بريق عينيه اللتين استولى عليهما الشحوب عنوة خلال سنوات سجنه الطوال. إذ يقول “السجن سيرورة تعلّم. وبفعلها توسع عالمي، وصرت حراً أكثر في السجن. الفضل أيضاً للألم وللذهاب إلى نهاية الألم. دون حرية ودون حب ودون شباب ودون أخطاء الشباب ونجاحاته، نعيش في السجن حياة مبتورة، ربع حياة أو أقل. لا نتغلب على انبتار حياتنا ان لم نتغيّر، نغير حياتنا وذواتنا. يضاعف التعلم الحياة ويقلل البتر”. وبُعَيد هذه العبارات المشحونة بحساسية إنسانية مفرطة، يعود في موضع آخر إلى القول: “السجن قاس وقد يكون مدمراً، لكنه بيئة السجناء، وطنهم وبيتهم. سجوننا تشبه أوطاننا. تشبهنا نحن أنفسنا. والمعتقل السياسي شخص يقاوم ويتماسك ويتعب ويصبر، وقد يتفكك، يدير حياته بما هو متاح؛ ليس رمزاً ولا تجسيداً لواجب بطولي يبقى متماثلاُ مع ذاته قبل السجن وأثناءه وبعده”. وبرأيه “يستحسن عيش السجن وفق تصور مرن يعدّل وفقاً للظروف يما يتيح لجماعة السجناء شروط حياة أفضل أو الصمود المطلوب”.

ورداً على سؤال في إحدى المقابلات معه المنشورة في الكتاب (لم تنشر من قبل) يتواضع ياسين مخففاً من وطأة معاناته في سجنه عبر مقارنتها مع ما عاناه السوريون خارجه. فيقول لسائلته المناضلة السورية رزان زيتونة “إذا وضعت في بالك اني قضيت كامل عقد الثمانينيات وأكثر من نصف التسعينيات سجيناً، أيام كان المجتمع السوري يُسحق، وكان كل فرد فيه مضطراً لتقديم تنازلات متعددة وإجراء تسويات كثيرة مع أوضاع لئيمة، تبدّى أكثر أن السجن مقامُ أكرم، أقل اذلالاً على أقل تقدير”. وعلى المستوى الشخصي بدا لياسين أن اعتقاله “كان حلاً بصورة ما لمشكلات دراسية وعاطفية، وأكثر لمشكلات تخص التوجه في الحياة وتعريف النفس، ما كنتُ، يقيناً، مؤهلاً لحلّها بصورة مرضية لو بقيت خارج السجن”.

على ان ياسين لا يكتفي بذلك. وإنما ينحاز لكتابة عن السجن وظيفتها أن تكون “محاولة لاستعادة تكامل الحياة الشخصية أو سلامتها، محاولة لرأب صدوعها ووصل انقطاعاتها ولأم تمزقاتها”. فهو يحب أن يتصور أن ما كتبه عن السجن “كتابة عن الحرية، أو سيرة تحرر ذاتي. نعم في السجن تغيرت وانعتقت من أغلالي الداخلية، وفي السجن تصالحت مع نفسي، وفي السجن كانت ثورتي الشخصية”. فقضية السجن هي “الكفاح ضد الاستبداد، ضد السجن السياسي ضد السياسة التي تسجن. هذا يوجب تحرير قصص السجناء وسيرهم الخاصة من أيديولوجية السجن وأساطيرها الخاصة. وبقدر ما يمحو السجن الفردية فإن واجب الكتابة عن السجن هو، بالعكس، شق بطن هذا الوحش واستخراج الأفراد منه واحداً واحداً”.

1980-1996 – (؟)

16 عاماً بين 1980 و1996 قضاها ياسين بين ثلاثة سجون: المسلمية في حلب، عدرا في دمشق، وتدمر. والأخير، على الرغم من أن إقامته فيه لم تتجاوز العام، إلا أنه لا يتورع عن وصفه بأقذع الأوصاف وأكثرها انطواء على شحنة توتر تكاد لا تحضر في الكتاب إلّا معه. فهو تارة يصفه بـ”السجن الرهيب” وتارة ثانية بـ”عار سوريا الذي لا يمحى”، وطوراً بـ”مصنع التأبيد التدمري”.

دخل ياسين السجن في العشرين من عمره (من 7/12/1980 حتى 21/12/1996). دخله حزبياً شيوعياً منضبطاً وخرج منه متحرراً بالمطلق من تكوينه التوتاليتاري. فصار يسارياً مستقلاً منحازاً إلى قضايا الإنسان والحرية والعدالة في بلده وفي أرجاء العالم كافة. ففي مساق التعريف بذاته سياسياً وفكرياً يقول: “بقيت يسارياً ولست مستعداً للتخلي عما في اليسار من انحيازات نقدية ضد أصحاب الثروة والسلطة، ومن موقف اعتراضي. لكني صرت على نفور عميق من كل مذهبية مغلقة ومن كل منزع يقيني ودوغمائي، ومن انتهازية أصحاب العقائد ولاأخلاقيتهم العميقة. أعتقد أن مشكلة الشيوعية هي التعارض بين انحيازاتها الإنسانية المفتوحة ونظامها العقدي المغلق، وقد ذهب المفتوح ضحية المغلق”.

ويتضمن الكتاب عشرة نصوص (بعضها منشور) ومقدّمة. وهو مهدى إلى روح والدته التي “لم تطق ان يسجن ابنها، ثم ابنان آخران. ماتت ولم يودعوها”، والى روح والده الذي “لم يتقبل ان أعمل كاتباً، مات وفي نفسه أن يراني أقوم بعمل أكثر هيبة”.

في الختام ليس من خلاصة للكتاب تفيه حقّه أفضل من الاستشهاد بما قاله ياسين عن سجن تدمر: “ليس تدمر هو السجن المطلق إلا لأنه يعاقب بقسوة لامتناهية رؤية الوجوه وتسمية الأسماء. الوجوه كلها والأسماء كلها.

التحرر من السجن، لذلك، هو أن نرى، أن نسمّي، وأن نعرف”.

أغلب الظن أنه في أعقاب انتفاضة السوريين التحرّرية على “مملكة الصمت”، بات السوريون جميعاً، لا ياسين وحده، يرون ويسمّون ويعرفون.

غدا اللا متناهي أول الطريق إلى الحرية، لا منتهاه!

حسن الحاف

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى