بالروح بالدم نفديك!
عمر قدور
كنت في الصف الأول الابتدائي حينها، ولم أكن قد تعلمت التسلل والهروب من مسيرات التأييد. طُلب منا أن نردد الهتافات التي يصرخ بها تلميذ أكبر سناً؛ تلميذ بدا أنه اكتسب المران من مسيرات سابقة، فكان يصرخ وقطرات من العرق تلمع على جبينه. لا أذكر مناسبة التأييد حينها ولا الشعارات التي هتف بها قائد زمرتنا، أذكر فقط أنه في ذروة حماسه نسي كل الهتافات وصار لزاماً علينا أن نردد وراءه: بالروح بالدم نفديك. كطفل في السادسة من عمره؛ لم يكن لدي من الوعي ما يمنعني من ترديد الهتافات، لكن الهتاف الأخير جعل لساني يتلكأ ويحجم عن الصراخ، ربما هي كلمة «الدم» لم ترُق لي، فرحت أنظر إلى صاحب الهتاف كشخص شرير قد يجرحني بعد قليل أو يشجّ رأسي. كرهت كلمة «نفديك» مع أنني لم أفقه معناها آنذاك. في الواقع ما زلت أكره كلمة «الفداء» حتى إن وردت في نص من نوع «أفديه إن حفظ الهوى». كان لي عمّ فدائي أحببته جداً وأخافني مرة عندما رأيته بثيابه المرقطة رغم أنه لاعبني وحملني إلى أعلى رأسه كالمعتاد. حدث ذلك قبل دخولي المدرسة وسماعي الهتاف؛ ذهب في عملية فدائية ولم يعد، يومها اعتقدت أن الفدائيين جميعاً لا يرجعون.
هو ليس الانتهاك الوحيد، ولكن أن ينشأ الأطفال وهم يرددون «بالروح بالدم نفديك»، الأطفال الذين لم يروا عمرهم بعدُ عليهم أن يكبروا كقرابين، ذلك يجردهم من إنسانيتهم قبل طفولتهم، يجعلهم بمثابة الذبائح المؤجلة، من أجل بقاء سيادته. حتى إن أخذنا العبارة على سبيل المجاز يعجز العقل عن إيجاد مبررات مقبولة لتكون حيوات مجموعة ضخمة من الناس في المقابل من حياة رجل. قدمت البشرية عبر تاريخها الكثير من القرابين الآدمية لأشخاص، لكنها توقفت عن ذلك منذ عهد بعيد، استمر الناس في تقديم أنفسهم فداء لقيَم أو أوطان، لا لأشخاص. نعم؛ هناك حالات فردية قدّم فيه البعض نفسه فداء لشخص آخر، هذه حالات فردية طوعية لا تُقسر عليها الجموع. في سوريا أيضاً قد يقول الحبيب لحبيبه «أنا قربانك»، وتُختصر غالباً بـ»قربانك» أو «قربان»، في دلالة على عمق الحب، قد تقولها الأم لطفلها، لكنها تُقال بعذوبة استثنائية، تُقال بعظمة المحب لا بمنطق الشاة.
أجيال عديدة تربت على «بالروح بالدم نفديك»، فتعزز في لاوعيها أو في وعيها أن لا قيمة لوجودها بحدّ ذاته، وأن هذا الوجود قد يُسحق في أي لحظة يقتضيها وجود القائد المفدّى. لم يخجل الخطباء بأصواتهم الجهورية من قولها له، فصار «القائد المفدّى» واحداً من الألقاب الاعتيادية التي يمكن رؤيتها مصاحبة لصورته، أو كشعار على لافتة أو حائط. لقب هو بالأحرى بمثابة إنذار لكل من يعترض، أو يرى وجوده أعلى من أن يُبذل عنوة على مذبح الطغيان. مع عدم آدمية كلمة التدجين إلا أنها توحي بالحفاظ على الحد الأدنى، على الحق في الحياة، في شعار «القائد المفدى» ينعدم هذا الحق بأبسط معانيه، هذا قبل أن يفكر أصحابه في أنهم قد سُلبوا هذا الحق.
ما يحدث الآن يقول إن التركيز على مسألة الفداء لم يكن أبداً في إطار التعبير الرمزي. مقتل آلاف المتظاهرين يدلّ على أن الشعار انتقل إلى حيز الفعل. التطبيق العملي يوضح أن ديمومة السلطة في المقام الأعلى وإن اقتضت سفك الأرواح والدماء. عندما يقتل النظام من أجل بقائه فهو يترجم أسوأ ما تعنيه القوة، الرصاص الذي يخترق الأجساد يمزق أيضاً كل المجازات التي انبنى عليها النظام، وكأن ما سبق من قمع ليس سوى مداورة لفظية بانتظار لحظة المكاشفة. في هذه اللحظة الشهيةُ مفتوحة للدم، هذا ما تقوله المبالغة في القتل، وما يقوله الرصاص العشوائي وقذائف الدبابات، وهذا ما يقوله منع إسعاف المصابين وتركهم ينزفون حتى الموت. أما الحديث عن الأرواح فلن يجد مكاناً لأن القتلة يدركون ما هو محسوس فقط. هكذا يستوي الرقص على الأجساد الحية المكبّلة والرقص على الجثث؛ هكذا يعلو الهتاف فوق الأجساد في الحالتين انتصاراً وتهليلاً بتقديم القرابين الجديدة.
لن يفهم القاتل أن المتظاهرين يستردون حيواتهم، ولو بالموت، لن يفهم أن القربان يُقدّم الآن على مذبح آخر، وعلى أمل أن تكون المرة الأخيرة. ثمة مسافة مفهومية قطعتها الانتفاضة ولم يستوعبها الطغاة، هي مسافة الكرامة البشرية التي تبدأ بالحق في الحياة، والحق في أن يكون البشر بشراً لا رعية أو قطعاناً. يظن المستبد أنه بالقتل يعوض فقدانَه السيطرة على حياة الآخرين، لكنه للمفارقة يكون قد فقدها وانكشف الزيف تماماً، فهو لن يسمع هتافات الفداء سوى من قلّة لا تكفي بقاءه. ولن تكون هتافات هذه القلة سوى اجترار باهت لزمن لن يعود. الأطفال الذين أُجبروا على الهتاف غادروا أسوار الحظيرة، وجربوا هتافات جديدة غير مكرسة لشخص بعينه، وإن هتفوا لشخص فهو القتيل الذي منهم ويشبههم. وبقدر ما عاشوا ذلّ الشعارات القديمة فإنهم اليوم يؤكدون بحناجرهم العارية على أن ذلك لم يكن صوتهم الحقيقي.
ربما لا يعي المتظاهرون جميعاً المعنى التاريخي العميق للانتفاضة، وربما لا يعرف بعضهم حتى معنى السياسة، هم ليسوا بحاجة إلى كل هذه المعارف كي يحسوا بأرواحهم ودمائهم التي استلبت. الإحساس بالكرامة البشرية غير القابلة للتفاضل هو ما كان مغيّباً وممنوعاً. قبل أيام كتب أحد المدونين على صفحته في الفيس بوك النص التالي: «اذهب إلى جحيمك منفرداً.. واترك لنا أهلنا الطيبين. لا أنت أغلى من هؤلاء الذين يقسطون أعمارهم المهمشة كما يقسطون تلفزيون سيرونكس، ولا أهلك أكرم من تعب هؤلاء الذين تشققت أرواحهم في بيوت البلاستيك وزراعة التبغ والتفاح في الجبال البعيدة، ولا نسوتك أعز من بائعات خبز التنور والسلق على الدروب، ولا أطفالك أطهر من هؤلاء الذين يلبسون جزمات «الغوما» على الدروب الموحلة. اذهب إلى جحيمك.. واترك لنا فرصة أخيرة لترتيب حيواتنا الموجزة كخبر عاجل على «فضائية مغرضة». الذين أُجبروا يوماً على أن يهتفوا «بالروح بالدم نفديك» يدركون مدى الحرقة التي تختزنها هذه الكلمات البسيطة.
المستقبل