بالسوريين وليس بـ «الشعب السوري» نتجاوز النظام/ لؤي حسين
أجزم أن النظام السوري يرتقي ليكون واحداً من أسوأ أنظمة الحكم التي خبِرها الاجتماع البشري، في ما يتعلق بانتهاك الحريات الفردية وحقوق الإنسان. فلدى النظام أبشع أنواع السجون، وأسوأ أنواع المعتقلات، من ناحية ظروف الحياة فيها أو أنواع التعذيب التي تُمارس تجاه المعتقلين ضمنها. فالمخابرات السورية والأجهزة الأمنية، بما في ذلك الشرطة المدنية والعسكرية، مارست أشنع أنواع التعذيب التي تفتقت عنها أذهان الوحوش البشرية في قاطبة الأرض.
هذا ليس «حكي جرايد»، ولا كلاماً اعتباطياً، بل حقائق خبرتها بتجربتي الشخصية في عدد من معتقلات النظام ومراكز اعتقاله. ولا أعتقد أنه يوجد كثير من السوريين، من الموالين ومن المعارضين، ينكرون عليّ ما ذكرته من حيث صحة الواقعة. ولكن مع ذلك، فإن بعضهم ينظر إلى هذه الممارسات على أنها أفعال طبيعية يتوجب على السلطات أن تقوم بها بحق البعض. وهذا الرأي نابع من عدم أصالة مفهوم حقوق الإنسان عند العموم السوري (وعند الخاصة أيضاً)، إذ إنهم جميعاً يعتبرون أن هذه الحقوق حَقٌّ للقريب ولا يستحقها الغريب. ومع ذلك، فإن بعضاً ممن يعتبرون هذه الممارسات أفعالاً مدانة، يعتقدون أن النظام لا يتحمل مسؤوليتها، لقناعتهم أنها ليست من طبيعته ولا ناجمة عن بنيته، بل يؤكدون أن من يقوم بها هم العناصر المُفْسِدة في النظام.
ومع ذلك، وبالتوازي مع ما ذكرت، أعتبر أن الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، لو تمّت، ما كان لها أن تكون كفيلة أو كافية إطلاقاً لإنهاء حالة الاستبداد التي يتأسس عليها كل هذا العنف وهذا الانتهاك لحقوق الإنسان. فأغلب المستبدين، ما لم يكونوا جميعهم، يرتكبون أفعالَ قتل عندما يضيق بهم حال الحكم.
لكن، وبهذا التوازي ذاته، يتوجب القول إن النظام السوري في حال بقي على حاله، من دون تغييرات جذرية كبرى في بنيانه، فإنه سيعيق أي عملية تحول ديموقراطي، وسيبقى يصادر وينتهك حقوق السوريين وحرياتهم الفردية.
بناء على هذا، فإننا كسوريين في مواجهة تحدٍّ في غاية الدقة، إذ يتوجب علينا، إن كنا معارضين أم موالين، أن نعمل لتفكيك البنية الطغيانية العنفية الموجودة في بنية النظام وفي بنية المجموعات المعارضة بخاصة الجهادية منها. وأن نقوم بعملنا هذا مع استمرار بقاء النظام السوري. فصحيح أنه خسر جميع سلطاته السيادية، وبات «مَربطه» مُحكَماً بيد الروس أولاً والإيرانيين تالياً، لكنه بالمعنى الشارعي الميليشياوي هو المنتصر. فخلال مرحلة تحوله ليصبح، بقضه وقضيضه، مجرد ميليشيا، حوّل البلاد برمتها إلى تركيبة ميليشياوية، وأصبح الآن يتصالح مع الميليشيات المعارضة راضياً ببقائها تمارس ميليشياويتها على أبناء مناطقها.
هذا التحدي يفترض منّا عدم القبول بانتصار الشارع على العقل والحكمة، وعدم الاكتفاء بندب حظنا نتيجة ما آلت إليه أحوالنا، والإقلاع عن هوايتنا في «حكي القهاوي» والتحليلات فوق الدولية. فعلينا إدراك أن عنفنا السلطوي ليس وليد حكم بشار الأسد، حتى لو كان بلغ أقصى حدوده خلال عهده، بل إن أُسس هذا العنف وُضِعَت مع الانقلاب العسكري الأول في البلاد، حين صادر المنقلبون، بعنف سلاحهم، حق السوريين باختيار قياداتهم وسلطاتهم وفق إرادتهم الحرة. ومع أنّ مسألة حقوق السوريين وحرياتهم وكراماتهم كأفراد لم تحظ باهتمام مناسب من غالبية التيارات السياسية والفكرية والثقافية آنذاك (ولا الآن)، غير أنه مع استيلاء العسكر على السلطة بدأت عملية إنتاج مفاهيم مغلوطة ومخاتلة عن الدولة والسلطة والوطن والشعب، وغيرها من المفاهيم والقيم التي يقوم عليها العمران الإنساني المزامن لتلك الفترة، ساهم كل ذلك في تغييب ثقافة الحقوق والحريات عن الذهنية العامة.
ولم يطل الزمن كثيراً بالانقلابات العسكرية حتى أنتج حزب البعث نسخته منها، حيث استولى على السلطة وقام بإلغاء أي معنى مفهومي أو واقعي لأن تكون الدولة تنظيماً مجتمعياً يقوم على توافق مجموعة من الأفراد الموجودين في جغرافيا سياسية محددة لتَدَبُّرِ شؤونهم المشترَكة (تعريف تبسيطي). فلم تعترف السلطات البعثية بالجغرافيا السياسية السورية، واعتبرت سورية الحالية مجرد جغرافيا طارئة ولِدَت من اتفاقية «سايكس بيكو»، وبالتالي هي غير صالحة لإقامة دولة عليها. ورفضت في شكل مطلق الاعتراف بوجود اجتماع سوري، فالسوريون بنظرها لا معنى لهم ولا هوية خارج الشعب العربي الواحد.
مع سيطرة الذهنية القومية، البعثية وغير البعثية، ليس في سورية فحسب بل في مجمل الخطاب السياسي والثقافي العربي، صار «الشعب» بوجوده غير المتعيّن هو مصدر السلطات. فمصطلح «الشعب» هذا لا وجود له في الواقع، إذ يقتصر وجوده على الخطاب الديماغوجي التضليلي الذي يعمل على إعطاء شرعية للسلطات التي ليست لديها شرعية انتخابية. فالشعب ضمن هذا الاصطلاح يعلو الواقع المجتمعي ويفارقه. وبمعنى ما: إن قُتل نصف مليون «بني آدم» سوري فإن هذا «الشعب» لا يتأثر بذلك نقصاناً، وإن سعى بعض الأطراف لإلغاء طائفة سورية برمتها، إلغاءً وجودياً أو حقوقياً سياسياً، فإن هذا «الشعب» يبقى من دون نقصان أيضاً. فقد استُخدِم هذا المصطلح في تجربتنا الصراعية الأخيرة كأداة إلغائية وإقصائية وعدوانية على الأفراد. فالشعب عند النظام يلفظ المعارضين من طيات تعريفه، وعند المعارضة لا يحوي الموالين تحت عباءته.
قد يكون من المجدي أن يكون مطلع تنطحنا لمواجهة تحدياتنا القادمة أن نقوم بعدد من القراءات النقدية للتجارب السياسية السورية، ولتجارب الحكم السوري، منذ بدايات تأسُّس الكيان السياسي السوري بحدوده الحالية. وذلك بهدف رصد واقع الفرد السوري على مستوى الحقوق والحريات. هذا لأن الفرد هو الوحدة المكوِّنة للمجتمع المديني، وهو المفردة التي تقوم عليها الدولة الحديثة. فعلى الأغلب أننا سنلحظ أن غالبية القوى والحركات، المدنية أو العسكرية، التي ولجت الحقل العام، منذ ذاك الحين إلى الآن، بقصد التغيير السياسي، هي من طينة طغيانية واحدة تقوم بفرض أيديولوجيتها وقادتها وسياساتها على العموم بالوسائل العنفية. وحتى مَن «شَكَلَ» منها كلمة الديموقراطية في سياق شعاراته أو في صدر طروحاته، كان تبنيه لها ذا طابع شكلاني. فالديموقراطية لا تقوم البتة إلا على الحريات الفردية المصانة بالدستور والقوانين، والمحمية من مؤسسات حكومية قادرة على ذلك، والمحتَضَنة في الذهنية العمومية. فلا يمكن أن يكون المسعى إلى الديموقراطية جاداً أو صادقاً إن كان الساعي ما زال يرى أن الدولة تقوم على فكرة «القوم» وليس على الفرد (القوم: العرب أو الكرد أو الإسلام أو الطوائف وغيرها). فغالبية الحركات السياسية، أو الثقافية والأدبية أيضاً، لم تعط لهذا الفرد شرعية الوجود ككيان مستقل بذاته خارج مفاهيم «القوم» أو اصطفافات «القوم» أو أخلاق «القوم»، بل اعتبرت أن «الفضيل» هو الشخص التقليدي الذي لا يعتمد البدعة فيكون منشقاً عن قومه يتوجب نبذه، لكون الانشقاق عيباً وضلالة.
لهذا علينا، إن أردنا وطناً يليق ببشر يعرفون حقوقهم، أن لا نقيمه على مقولة أنه وطن للشعب العربي ولا حتى «للشعب السوري». فمقولة الشعب القارّة في أذهاننا تجعله سابقاً على وجودنا كأفراد موجودين في الواقع العياني المحسوس، وطاغياً على إراداتنا الحرة. وهذه العلاقة بين هذا «الشعب» وبين الأفراد توجب امتثالهم لقِيمه وغايات وجوده… هذه الغايات التي يصوغها أصحاب السلطات القهرية. فجميع هذه السلطات ذات خطاب شعبوي تدّعي تمثيلها الشعب، فتقوم بقهر الناس وقمعهم وفرض سطوتها عليهم، بغض النظر عن قوميتهم أو دينهم أو طائفتهم، بذريعة دفاعها عن «الشعب».
إذاً، إن كنا نريد وطناً يتساوى فيه جميع السوريين ولا يَنْزِل بأحدهم ضيمٌ من أحد آخر، فرداً كان أم جماعةً، فعلينا أن نبني هذا الوطن على مبدأ اجتماعنا مع بعضنا كأفراد سوريين أحرار. نختار العيش مع بعضنا بحرية ووفق قيمٍ تجمعنا، لا رضوخاً لـ «قيم» يفرضها الغالب على المغلوب، أو الكثرة على القلة، أو القوي على الضعيف، أو الغني على الفقير، أو الرجل على المرأة. ونصوغ قيمنا الجامعة ضمن عَقْدٍ بيننا نعليه فوقنا جميعنا، ضمن صيغة أن: الدولة السورية تقوم على عقد بين أفراد سوريين أحرار متساوين في الحقوق والواجبات، لا يَفضُلُ أحدهم غيره بسبب دينه أو طائفته أو قوميته أو جنسه أو عقيدته أو معتقده.
* رئيس «تيّار بناء الدولة» السوريّ
الحياة