صفحات المستقبل

بانتظار يوسف/ لما الخضراء – كمال جمال بك

بخيط أمل رقيق يتعلَّق أهل المفقود بانتظار عودة “يوسفهم” ، وعلى مُرِّ صبر أيوب يرفعون مثله الدعاء عالياً ومنكسراً , كي يُفكَّ أسره إن كان معتقلا , أو يظهر من وراء حجاب الغياب السميك .. ويخبِّئون في القلب لوعة الفقد , فتقطر من الحناجر آهٌ مجروحة من شبح خوف يبعدونه عن ساحة الوعي , فيداهم حتى الكوابيس , وقد مزَّق الستار فيها عن رعب ” الغياب بلا عودة ” ..

وفوق كمِّ الهم المتراكم , اعتاد السوريون خلال الأعوام الثلاثة , إلقاء الرحمة على الشهداء – مثلما اعتادوا قبلها أن يلقوا تحية الصباح – وصاروا يتبعونها عن ظهر قلب بالدعاء للجرحى بالشفاء , وللمعتقلين برؤية الضياء ، وللنازحين والمهجرين بالعودة إلى الديار ، لكنَّهم – بعد كلِّ هذه السلاسة في إدارة المأساة – يرتبكون في زحمة الغمِّ , فتنعقد الألسنة حين يقاربون أهل المفقود , ولايجدون وسيلة إلا أن يأخذوا الله حسْبهم متمتمين بدعاء يتيم ” الله يفرِّج كربه وكربكم ” ..

وبين غرقين إجباريين متلازمين , في دوَّامة العجز وفي دورة العيش ، يظلُّ المفقود في يوميات الأهل كأنما هو حاضر لا يغيب , حتى يدخل تحريك أغراضه من أماكنها في بابهم للمحرمات ، تلسع الذكريات أيامهم كدقَّات ساعة تراوح في مكانها , يدوِّي صدى الصوت بالدعاء مرسلاً إلى سابع سماء لكي يعود المفقود إلى أهله كما عاد يوسف لأبيه .

وكمن يتقصَّى الأثر في رمال صحراء بعد أن بلَّلها المطر, يلوب أهل المفقود في إثر  إشارة أو دليل أو حتى كسرة أمل , ينبشون آخر مكان أو حاجز كان في طريق عودة ابنهم قبل أن يختفي عنده كسراب ، ليبدأوا بعدها رحلة البحث المُرِّ عن الجهة التي كانت وراء اختفائه قسراً عن وجه الأرض .. ويضيعون بين مرَّين لا حلو فيهما , علقم الأفرع الأمنية أو حنظل الفصائل المتطرفة .. ومن ثم يسألون أصحاب الأيادي الطويلة غير البيضاء , فيمدُّونها بالرشوة إلى هذا الفرع أو ذاك , أو هذه الجماعة وأخواتها .. وعلى رعب ينتظر الأهل علَّ خبراً يصلهم بمعلومة ولو غير مدقَّقة , تفتح لهم كوَّة يلوح في آخر نفقها ولو بصيص من أمل .

وبدلا من أن تُقصِّر كلُّ تلك الطرق ساعات الوجع , تتسع مع الانتظار الذي غالباً ما يظلُّ بلا نهاية , مثل قائمة المفقودين الطويلة التي لا يحين لها ختام , تلتهم المزيد من الأشخاص على مدار الساعة .. وتبدأ دائما حارَّة صادمة قبل أن يبتلع جديدُها قديمَها .

وفي القائمة تصطف الأسماء بعشوائية – كأنما لا ناظم يجمعها – تزدحم كلوحة سوريالية بيساريين وليبراليين وإسلاميين ومسيحيين , طلبة جامعة وأُميين , متعلمين وموظفين وحرفيين , لكنَّها – على ما تجمع من تناقضات – تخفي الخيط الرفيع الذي يجمع ما قد يبدو رصفه مقاربة في عالم الأضداد.

ووسط الزحمة المتمددة لقائمة الفقد , مازالت – رغم طول الغياب – تلوح صور كثيرة فتبدو من بينها ملامح رجلين , أحدهما شيوعي (الدكتور عبد العزيز الخير) ، والثاني يسوعي (الأب باولو) ، وكلاهما يقبع في العتمة تحت نصل الخاطفين..

وفي تواز لا يخلو من دلالة تتمسَّك مختلف الجهات الخاطفة بخيط النكران , حيث تنفي السلطات السورية أن يكون الخيِّر معتقلاً لديها على الرغم من كلِّ البيانات التي تؤكد اعتقاله على حاجز أمني تابع للنظام قرب مطار دمشق في طريق عودته من مشاورات سياسية في بكين في الحادي عشر من أيلول عام 2012 , مثلما تنكر ميلشيات ( داعش ) المسيطرة على محافظة الرقة المحررة من سلطة النظام , الذي كان هناك في مهمة في السادس والعشرين من تموز الماضي لمحاورة مختلف الجهات ، الإسلاميين والكرد ، المتطرفين والوسطيين ، حاملي السلاح والسلميين..

وعلى مابين الرجلين من تباعد شكلاني – في كون الخيّر شيوعيا علمانيا ومع ذلك شكَّل خطراً على النظام ” العلماني ” , وكون الأب باولو يسوعيا إيطاليا لكنه شكَّل خطراً أيضا على نظام ” يحمي الأقليات ويحمل لواء محاربة الإرهاب الإسلامي” – إلا أن مايجمهما من سعة أفق وكاريزما ، زاد عليه موقفهما الرافض لممارسات النظام العنفية ضد الثورة، ليضاف الفقد إلى قائمة المشترك بين مختطفين لدى جهتين مختلفتين شكلاً , متفقتين مضموناً على تغييب كلِّ من يُغرِّد خارج السرب ويهتف بصوت السلمية وسلاح الموقف والكلمة بحق الجميع في الحياة داخل دولة مدنية ديمقراطية تكفل كل حقوق الاختلاف.

وبحساب خبرات ثلاث سنوات دامية مع النظام من جهة , وتراكم المعرفة التاريخية بانسداد أفق التفكير عند ( داعش وأخواتها ) من جهة أخرى , يلوح الرابط بوضوح بين حدثين قد يبدوان بعيدين في الزمان والمكان ..

فقد عمد النظام وبشكل منهجي منذ انطلاق الثورة إلى سياسة الاعتقال العاجل لمن بقي حيَّاً من الصف الأول لقيادات الحراك الشبابي السلمي – ومازال بعضهم مفقوداً حتى اليوم- ثم قام بحصاده المدروس لرؤوس الصف الثاني من القيادات التي أفرزتها المظاهرات الشعبية , وأكمل دورته بموسم ثالث من الاختطاف والاعتقال , امتد أفقيا وعموديا على مساحات الاحتجاج , ليفقر- إلى حد بعيد- ساحة الحراك السلمي من رموزها وأيقوناتها , ويغيِّب اغتيالاً وقتلاً أسماء مثل مشعل تمو وإبراهيم القاشوش وباسل شحادة , ويستكمل ذلك بحملة منهجية موازية لتشريد قائمة طويلة جداً من النشطاء والسياسيين والمفكرين بعد أن عمد لإخفاء أصوات قياديين يحظون بثقة الشارع , عارفاً أن لحظة قطافه السياسي والعسكري لن تأتي إلا باستكمال دورة إفراغ الساحة من السلميَّة, وسدِّ الفراغ بفوَّهات سلاح لا يُطربه فيها إلا صوت داعش  ..

وعلى مسافة عام أو يزيد – جاء أوان الحصاد السياسي والعسكري لممارسات النظام في المناطق المحررة – فاختفى الأب باولو على يد داعش التي ما زالت تعمل بشكل منهجي أيضا – منذ استلامها بقدرة قادر مفاصل المناطق المحررة – على مشروع موازٍ لمشروع النظام , وعلى طريقه الدامي مازال يغيب -خبط عشواء- كلُّ صاحب مشروع ( يريد لسوريا أن تتسع للجميع ) ..

بين فكَّي كمَّاشة النظام وداعش ينحشر السوريون مع يوميات متخمة بالموت والفقد , فتغيب وراء جدران الألم صور الخيِّر والأب باولو وكلّ ” الخيِّرين والأبناء والآباء المفقودين” , وتطوى ذكراهم تحت نصل سكين حادة لاتتوقف عن صناعة المآساة.. لكنْ ومع اشتداد الوجع يصير الغائبون أيقونات , ويسير الحاضرون في إثرهم على درب يوسف العصر الجديد بينما يشقُّ الصراخُ صدرَ أب سوري يختبر صبر أيوب من جديد فيشقُّ سابعَ سماء :” يارب أنا مطمئن على ابني الشهيد .. فماذا عن إبني المفقود ؟ ” ..

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى