بحثاً عن الحزب السوري/ بكر صدقي
تكاثرت التشكيلات السياسية السورية، في السنوات الأربع الماضية، كالفطر، لتضاف إلى بضع دزينات من التشكيلات القديمة، وتشكل معاً لوحة سياسية واسعة، ظاهرياً، يصعب على المراقب التمييز بينها أو حتى وضع جردة وافية بأسمائها أو أسماء القائمين عليها.
وبعضها يسمى أحزاباً وبعضها تيارات وبعضها حركات، إلى جانب أطر تحالفية أو ائتلافية كثيرة بدورها، تولد وتموت، وتتم في ما بينها انتقالات وانشقاقات. وتتشابه التسميات حتى يصبح بوسع المرء تأليف معجم للكلمات المستخدمة فيها لا يتجاوز ثلاثين كلمة، بما في ذلك أحرف العطف والجر؛ كالديموقراطي والوطني والحر والجمهوري والموحد والسوري والثوري والإصلاحي والتوافقي، مع تأنيث كل واحدة من هذه المنسوبات.
تكمن المهمة الصعبة، بالأحرى، في معرفة ما الذي تمثله هذه التشكيلات من فئات اجتماعية أو قوى فاعلة، الأمر الذي لا تفيدنا فيه مكتوبات تلك التشكيلات من برامج سياسية أو بيانات أو تصريحات إعلامية للقائمين عليها. فهذه متشابهة، في الغالب الأعم، بما يعني أنها مفارقة لمضمونها. بكلمات أخرى: يجب النفاذ إلى ما وراء الكلمات من أشخاص وممارسات ومصالح يغطي عليها الخطاب الإيديولوجي، حتى نكتشفها اكتشافاً.
لعل المنهج الأكثر جدوى، للأسباب المذكورة أعلاه، هو تجاهل الأحزاب والتشكيلات الاسمية هذه، وتقسيم المشهد السياسي السوري إلى تيارات إيديولوجية رئيسية “عريضة” تمثل رؤى متمايزة بوضوح لمستقبل سوريا. من هذا المنظور يمكن الحديث عن ثلاثة تيارات رئيسية خارج ما يمثله النظام الكيماوي.
أولاً، تيار إسلامي بتدرجات مختلفة من الإخوانية إلى السلفية والسلفية الجهادية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن التيار الإخواني يضع رجلاً هنا ورجلاً في التيار غير الإسلامي. هذا التيار العريض يجمعه شعار “الإسلام هو الحل” لجميع مشكلاتنا. ويضع نصب عينيه إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، كهدف نهائي بعيد عند البعض، وآني قريب عند البعض الآخر.
ثانياً، التيار غير الإسلامي الذي يعرض تنويعاً كبيراً بعدد محدود من الأشخاص. لا يمكن اختزاله بوصف “العلماني” لأن هذا يثير الكثير من المشكلات المنهجية. لعل وصفه بـ”الليبرالي”، بمعنى عريض أو فضفاض، هو الأقرب إلى واقعه بالنظر إلى أنه يدافع عن قيم إيديولوجية مستمدة من الحداثة الغربية الليبرالية.
ثالثاً، النزعة الاستقلالية الكردية، وهذه تخص السكان الكرد وتتجاوزهم إلى امتدادهم القومي الكردستاني العابر للحدود الوطنية. ويخترقها تياران سياسيان رئيسيان هما التيار الأوجالاني والتيار البارزاني.
يمكننا الآن أن نرسم، نظرياً، حدود التقاطعات والافتراقات الممكنة أو الواقعة بين التيارات الثلاث. يبدو التيار غير الإسلامي هو الأكثر مطابقةً للوطنية السورية من جهة، ولما هو “مقبول” في المجتمع الدولي المعاصر من جهة ثانية، بالقياس إلى التيارين الآخرين. فالتيار الإسلامي العريض لا يعترف، في نهاية المطاف، بالحدود الوطنية، وهويته هي أمة إسلامية عابرة للحدود الوطنية القائمة. في حين أن النزعة الاستقلالية الكردية صريحة بفصل نفسها، مجتمعاً وأرضاً، عن الجسم الوطني العام، وبوصلها مع امتدادها القومي العابر للحدود الوطنية.
ومن ناحية “المقبولية” من المجتمع الدولي و”قيم العصر” إذا جاز التعبير، يتفوق التيار غير الإسلامي أيضاً على التيارين الآخرين، ويأتي التيار الكردي في المرتبة الثانية. لكننا سنرى أن هذا الأخير يخطف المرتبة الأولى في الحظوة لدى الغرب حين يتعلق الأمر بالصراع مع التيار الإسلامي، كما رأينا في واقعة كوباني.
لدى التيار الإسلامي مشكلة إضافية مع الوطنية السورية، تتمثل في أن برنامجها غير مقبول لدى ما يقارب نصف السكان، أي الجماعات من غير المسلمين السنة. ولا يعني هذا أوتوماتيكياً أن جميع السكان السنة يقبلون بالبرنامج الإسلامي. فإذا أضفنا التمايزات الكثيرة والكبيرة داخل التيار الإسلامي نفسه، بتنا نتحدث عن تيار أقلوي داخل البيئة السنية نفسها.
يتقاطع التياران الإسلامي وغير الإسلامي في خصومتهما مع النزعة الاستقلالية الكردية، مقابل تقاطع هذه مع التيار غير الإسلامي في مواجهة التيار الإسلامي.
عند هذه النقطة لا بد من إدخال النظام في المشهد السياسي، ولا أعني بالنظام تلك المجموعة الحاكمة الممسكة ببقايا جهاز الدولة وما زال لديه ممثل في الأمم المتحدة وسفراء في كثير من دول العالم. بل أعني صفته التمثيلية الاجتماعية. لا يمكن الحديث بيسر عن “تيار النظام” كما فعلنا مع التيارات الثلاث المذكورة أعلاه، بالنظر إلى افتقاده إلى رؤية مستقبلية لسوريا غير سوريا ما قبل 15 آذار 2011. ولكن يمكننا أن ندخل “تيار النظام” هذا في معادلات المشهد السياسي مع تجاهل خطابه المعلن الذي ما زال يتمسك بما يسميه “الدولة السورية” و”الجيش العربي السوري” و”الشعب السوري” و”السيادة الوطنية” إلى آخر هذه القائمة من الكلمات المفرغة من المعنى.
أول ما يخطر في البال هو ذلك التقاطع “الموضوعي” بين برنامج النظام وبرنامج التيار غير الإسلامي، في مواجهة التيار الإسلامي من جهة أولى، والنزعة الاستقلالية الكردية من جهة ثانية. فكلا التيارين (النظام وغير الإسلاميين) متمسك بالحدود الوطنية من جهة، وبالعلمانية من جهة ثانية. وهذا ما يجعلهما مقبولين بدرجات متفاوتة، وحدود متغيرة، لدى المجتمع الدولي.
في حين يتلاقى البرنامجان الكردي والنظامي في تمثيليتهما الاجتماعية لجماعات أقلية، في مواجهة الأكثرية (عربية مسلمة سنية) سواء مثلها التيار الإسلامي أو غير الإسلامي.
لكن زمن الثورة و”برنامجها” إذا صح التعبير، قد وضع الفاعلين السياسيين في جبهتين أساسيتين: جبهة النظام، وجبهة خصومه. وما التعثرات اللاحقة التي أضعفت جبهة الثورة إلا بسبب عدم إدراك هذا الخط الفاصل الرئيسي، أو عدم التصرف انطلاقاً من هذا الإدراك. فباستثناء قاعدة اجتماعية ضيقة ظلت متمسكة بسوريا ما قبل الثورة، كان لجميع السوريين، بمن فيهم الكرد، مصلحة مشتركة في سوريا جديدة. بل ربما كان بوسع التيار غير الإسلامي خصوصاً أن يخلخل القاعدة الاجتماعية للنظام من خلال فهم هواجسها ومصالحها.
المشهد السياسي الواقعي اليوم يدعو للتشاؤم: القوى الرئيسية الفاعلة هي النظام و”الدولة الإسلامية” إضافة إلى جبهة النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام وقوات حماية الشعب التابعة للتيار الأوجالاني. ويمكن جمع كل هذه القوى في ثلاثة هويات كبرى، هي الأحزاب الفاعلة: حزب النظام والحزب الإسلامي والحزب الكردي، مقابل غياب فاعلية التيار غير الإسلامي.
ليبقى السؤال الكبير: أين الحزب السوري؟ وما هي مقومات إنشائه؟
المدن