بخار الكلمات/ عزيز تبسي
تسربت كماء، لا يقبض عليها ولا يحجر على عباراتها. يتشكى أهلها من تزايد مخاتلاتها، عدم وضوحها، الرجرجة في قوامها.
لم تعد وسيلة مطواعة للتعبير وتحديد ما يفكر به، لا أحد يطمح بإشارة إلى عالم المجردات، كإشارته إلى حيز مطوق بالمهابة والرعب، فرضته فوائض الأسلحة والألبسة العسكرية، وقد حسبه الدولة. ها هي الدولة، أو الإشارة لعالم التعيينات كالمدينة والحديقة والشارع والساحات العامة، الذي يخسر عناصره بانتقالها إلى عالم أشد تجريداً. فقدت اللغة لسانها الجسور، الذي يقبل على الكلام، كما عطشان على غدير ماء. خنقتها اللجلجة كحبل جدل من خيوط التدرب المديد على “ابتلاع اللسان”، الإغلاق على الكلام الذي يقال في البيت بين أفراد الأسرة، والتقيد بقواعد الصمت والإصغاء في الشارع والمدرسة والعمل.
تبدلت الأسماء التي أطلقت من زمن بعيد على العناصر والأشياء. لا معنى ثابتًا في موقعه إلا ما خص عالم النبات والحيوان. مرحى للورود والحيوانات لأنها حافظت على أسمائها.
*****
ساهم التعليم الذي عممته الأنظمة الجمهورية في تجديد العبارات، فلم يعد أحد، من السائرين في الشوارع، يقرأ على واجهة محل “عندنا حلاوة حلوة” و”عندنا ثلج بارد” و”يفتح فندقنا ليلاً ونهاراً فقط”.
بمقابل هذا، فقد الناس قدرتهم ومحاكمتهم الذهنية التي تؤهلهم للتمييز بين الانقلاب العسكري المحدود الغايات، وأهدافه التي لا يمكن تبينها، إلا بعد الوصول إلى الانقلاب الذي يليه، والثورة المفتوحة على مسارات متعددة، تجددها الرقابة العمومية، والنقد الذي يصوب انحرافاتها، ولا المقدرة على التمييز بين الهزيمة العسكرية والانتصار العسكري، بعدما تبين أنهما يؤديان إلى النتائج الكارثية ذاتها، أو المعنى الغامض للتقدم، الذي يضعه على الطرف النقيض من التأخر، وزاد الأمر غموضاً بعدما قرّبت إلى جانبها عبارات أخرى “لا نقدّم الخمور” التي تبرز بخط واضح على زجاج المطاعم، “قسم خاص بالمحجبات” الذي يضاف إلى اللوحة الضوئية التي تعلو محلات الحلاقة النسائية، “خالية من لحم الخنزير” التي بدأت بالأطعمة المعلبة، وتوسعت لتشمل ما لا يدخل اللحم في تكوينه كالحلويات.
ولا الخلط بين الغايات المتأتية من مفردة “تطبيق” أي إدراج البرامج النظرية في الحقل العملي، بعدما خلط الجنرالات بين “تطبيق النسوان” و”تطبيق الاشتراكية”.
عجزت التجديدات اللغوية، التي أخذت بها الأنظمة المنتسبة للجمهورية، عن إبعاد الكلمة ذات الأصول التركية “ولك” أو “ولاك” التي عنت يا مملوك، وأوجدوا لها مكاناً بجوار “رفيق”.
بات يتعامل بواقعية مع التعابير والعبارات التي طالما جفل منها اليسار عموماً، واليسار الثوري على الخصوص، من نمط الشرطة والمخابرات والنظام الحاكم، واقعية صنعها الاعتياد بصروحه الراسخة، والسجون المديدة التي تكفلت بخنق كل من وقف في وجهها، عززهم الهزال الفكري، والعجز عن إنتاج بدائل عن هذا التوحش والجنون الذي رسخته القوى المنظمة للرأسمال المحصن بالاستبداد، وأشد الأيديولوجيات رجعية وسفاهة.
*****
انزلق الاستبداد رويداً رويداً، إلى حضيض العالم الواقعي العاري، وأوصل المجتمع إلى عتبة عقاب لغوي، عالم ذليل ومهان، نزعت عنه تزيينات البلاغة، والاستعارات والتشابيه والمجازات، والألوان التي تُؤول برمزيات ثاوية في أعماق التاريخ، والزخارف التي ترتجف أمام الجفون المغلقة، والعبور الفذ للخيول المطهمة، والمجد المفتعل الذي يشير إلى نقيضه.
منبطحاً “ولاك” تعني انبطح. كل هواء “ولاك” تعني كله. نفعل بك يا كلب تعني يفعل بك. لا يحلم الاستبداد، لأنه لا ينام. ولا يترك الناس تحلم، بعدما حرمها النوم.
تسبب كل ذلك بـ “ألم لغوي” وفق تعبير الفيلسوف غاستون باشلار. لكن اللغة لا تتألم، تنوخ تحت ثقل الآلام، التي تأتيها من الأمكنة التي تصنعه. ألم الذين ينطقون بها، وقد فقدوا القدرة على استنطاقها.
يعلم الكثيرون أن الضرب على الرأس يتسبب بأذيات بدنية لها منعكساتها الأخلاقية والاجتماعية والثقافية، لم يحل ذلك دون الضرب على الرؤوس، وقد حفزه ووسعه، ضرب العمارات على رؤوسها، الثقافة التي استلهمت التنوير الأوروبي، المدن التي شكلت متنزهات عمرانية، الغبطة العروبية التي تعالت كأشجار الحور من بواكير القرن الفائت. كأن ذلك من متممات حز الرقاب التي تكفلت بها جماعات أخرى. فقد الناس مع الوقت مقدرتهم على السير، تسمية الأشياء والتمييز بين العابرين، هرست ذاكرتهم، لا يمكن أن تحتمل أجسادهم الارتجاج الدائم في دماغها، ولا ارتجاج العالم الموضوعي التي يحيط بها.
لن يتأخر الوقت الذي سيبادر من يكتب على ظهورهم، العبارة التي عادة ما كتبت على الصناديق التي تحتوي أواني الخزف وكؤوس الزجاج، لتنبيه الحمالين بضرورة التأني بحملها: سريع العطب.
يتشهون وجود الحفر العميقة، ليقولوا بعد تهاويهم في جوفها، أنهم سقطوا سهواً، وأن هناك من حفر لهم، وفق الصيغ المكررة عن المؤامرات، والأعداء المتربصين، والمخططات الاستعمارية… إنهم يتهاوون على الأرصفة، أثناء عبور الشوارع، على الطرقات التي تصل بين المدن المحروقة.
ضفة ثالثة