أيمن الشوفيصفحات الناس

بدائل الحياة لدى السوريين/ أيمن الشوفي *

 

 

 

يظهرُ أحد سائقي “صهاريج” نقلِ المحروقات التابع لشركة “سادكوب”، وهو اختصارٌ لاسم “الشركة السورية لتخزين وتوزيع المواد البترولية ومشتقاتها” في شهر كانون الثاني / يناير من هذا العام على شاشة قناة “سما” الخاصة، والمقرّبة من السلطة السورية، ليقول بأن المسؤولين عن تعبئة الصهاريج بمادة المازوت يطلبون منهم مبالغ مالية بمثابة “الأتاوة”، جهاراً نهاراً، لقاءَ قبولهم تزويد “الصهريج” بحمولته المعتادة من مادة المازوت، ولا يكترثون لتبعات الرشاوى العلنية التي يطلبون، ثم وجرّاء ذلك، يبيع السائقون تلك المادة إلى محطات الوقود بغيرِ سعرها الرسمي. لقد تحوّلوا بفعل مناخ الحرب الذي تديره البلاد على أرضها منذ سنوات إلى تجار يسترزقون من فسادِ السلطة، ومن إفسادها لكل الموجودات حولها. فهم بذلك ينتمون إلى إحدى حلقات الفساد في سلسلتها الطويلة المترابطة بدراية.

بدائلٌ على مقاس الفساد

العامان الماضيان وثّقا كيّفيةَ اصطناع الأزمات ذات الطابع الاقتصادي – الاجتماعي، ومن ثم ترويجها على أنها فعلٌ منبعه المحض “العصابات الإرهابية”، ومحصلةٌ نهائية للعقوبات الاقتصادية الغربية. لم تتبرأ السلطة بذلك من تعميقها لتلك الأزمات فحسب، وإنما أجادت استثمارها في مفاصلٍ عديدةٍ، وحوّلتها إلى قنواتٍ تدرُّ الأرباح، وإنْ على حساب تقهقر حياة الناس ودفعهم باتجاه استنباط البدائل بحسب الممكن، لتكون في حقيقتها التظهيرَ النهائي للأزمات المفتعلة في صورة ربح طفيّليّ تجاريّ.

ازدهرت في سوريا تجارةُ المولدات الكهربائية صينية المنشأ خلال عامي 2013 و2014، كبديلٍ لغياب الكهرباء في برامجِ تقنينٍ قاسية تجعلها مفقودة نصف عدد ساعات اليوم. وتتراوح أسعار المولدات المنزلية بين 15 ألفا إلى 110 آلاف ليرة، ومثلها تجارة “بطاريات” السيارات التي تكلّف مع باقي ملحقاتها نحو 28 ألف ليرة، والتي تحوّلت إلى بديلٍ يتيح إنارة المنزل، وتشغيل جهاز التلفاز. وهناك “البطاريات” الصغيرة المخصصة للإنارة فقط والتي تكلّف مع متممات عملها نحو 5500 ليرة.

في الأرياف السورية، ظهرت مهنةُ التحطيب مجدداً برخص قانونيّة أو بدونها، وانتعشَ سوق الأخشاب منذ أشهر، ووصل سعر الطن الواحد منه إلى 30 ألف ليرة، كبديل لغياب المازوت التي تبرّأت السلطة في سوريا خلال شهر كانون الثاني / يناير مجدداً من دعمه، فزاد سعر الليتر الواحد منه ليصير 125 ليرة، وهذه هي الزيادة الثانية على سعره خلال أشهر. غيرَ أن فساد السلطة المتصل ببيع وتوزيع المحروقات أو بالإشراف عليه جعل مادة المازوت متوفّرة فقط بسعر السوق السوداء الذي يصل إلى 250 ليرة لليتر الواحد (نحو 1.3 دولار)، ما يعني أن كلفة الحصول على 400 ليتر من المازوت باتت تساوي 100 ألف ليرة، وهذا رقمٌ لا تعرفهُ الدخول المحدودة في سوريا إلا بقرض مصرفي. فمحنة ندرة المازوت هذا الشتاء بسعره الرسمي دفع بالميسورين في مراكز المدن أكثر من سواها إلى شرائه بسعره الأسود، لكن الأرياف السورية أحصت منافذ أخرى لتأمين وسائل تدفئة بديلة، فبالغَ المزارعون بتقليمِ أشجارهم، واحتطاب بعضها كي لا يدركهم الموت برداً، حتى أنهم لم يوفّروا بقايا ثمارِ الزيتون بعد عصرها لاستخراج الزيت فجففوها، وباعوا الطن الواحد منها بنحو 18 ألف ليرة. الأكثر فطنةً منهم حوّل فضلات المواشي خلال أشهر الصيف إلى مادة قابلة للاشتعال تكون بديلاً للمازوت وللحطب معاً ولا تكلّف شيئاً.

تلك البدائل مجتمعةً كشفت عورةَ التكيّف، وأعادت حياة السوريين إلى ما قبل تاريخ آذار / مارس عام 2011. ولعل القبضة الحديدية للسلطة في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية السابقة هو ما أيقظَ الرهاب المجتمعي خلال العامين الماضيين من جديد، فاشترى المجتمع فساد السلطة بصمت، وأمّن تحويله إلى ربح تجاري.

تكيّف الدخول المتآكلة

لم تضف الزيادة الأخيرة على الرواتب والبالغة 4 آلاف ليرة (ثمن كيلوين من اللحمة) أي جديد على القدرة الشرائية للموظفين في سوريا، إذ جاءت ملتصقة برفع سعر المازوت والخبز وأجور النقل.. وسوى ذلك. لذا بقيت الكتلة الأكبر من دخول السوريين منذورة للحاق بارتفاع المستويات العامة للأسعار، وكأنها ربحٌ مخبأ في جيوب الناس يجب على السلطة امتصاصه في متواليات أسعار وهمية لا تمثّل قيمة السلع الحقيقية. لكن أغلبَ الدخول الملتصقة بخط الفقر الأعلى وما دونه استعاضت عن بعض مكونات سلّة الاستهلاك اليومي بأخرى أقل كلفة، علّها تتعافى من سرعة اضمحلالها، فصار اللحم المجمّد الذي يصل سعر الكيلو منه إلى نحو 800 ليرة بديلاً عن اللحوم المعتادة، والتي يبلغ سعر الكيلو منها نحو 1800 ليرة، وظهرت الألبان الرخيصة المصنّعة من الحليب المجفف الذي يوزّعه البرنامج الغذائي للأمم المتحدة بعد دخوله في حلقات البيع والمتاجرة، وتوسّعت شهية التجارة على استيرادِ الملابس المستعملة، فازداد عدد المحال التجارية التي تؤمن بربحيّة هذه السلعة، وازداد عدد المواطنين المؤمنينَ بها لأن أسعارها تقلُّ عن أسعار الملابس الجديدة بنسبة الثلث بالحد الأدنى، كما لم يتعفّف المنطقيون من قبول الفضة بديلاً عن الذهب في ترتيبات العديد من الزيجات المنتمية إلى زمن الشحّ الذي يعيشه السوريون بعدما تجاوز سعر غرام الذهب من عيار 21 قراط 7100 ليرة ويقلُّ عنه بألف ليرة فقط سعر الغرام من عيار 18 قراط، فيما لا يزال سعر غرام الفضة معفياً من تقلبات سعر النفط العالمي، وعلى حاله متراوحاً ما بين 350 ليرة إلى 750 ليرة للغرام الواحد منه بحسب مقدار العمل اليدوي عليه.

علَّ البدائل تنجّي من ابتذال الموت أو الانجذابِ نحوه عنوةً. وكأن بدائل الحياة لدى السوريين صارت حياتهم، وصار اليأس تخمة تتناسل في يومياتهم. لذا لم يتوقف الكثيرون عن تحضيرِ أنفسهم لمتابعة موسم الهجرة القسرية أو الطوعية، كبديلٍ كلّيٍّ للمعاناة اليومية، بعدما يكونوا قد باعوا ممتلكاتهم أو بعضها، وقصدوا البرَّ أو البحر القريب، علّهم يستبدلون قدرهم بآخر، أو يستدينونه من غيرهم. فيما الإعلانات الطرقية تظهر متشبّعةً بفُصامٍ حادٍ عن الواقع، فلا تدري من تخاطب بعباراتٍ مثل “2015 عيشها غير”، أو قد تردع عن مواصلة التدخين بعبارة “قد ما نفخت عليها ما بتنجلي، تحرّك وعيشها غير”، والناس يعْبرونها بلا اكتراث للانتظامِ في طوابيرٍ طويلة تشبه “تراجيديا” بدائل حياتهم، يجنونَ من ورائها أحد أسباب البقاء.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى