“بدكم حرية”: النسخة “الداعشية”/ إياد الجعفري
من بين الفيديوهات الكثيرة التي نشرها “تنظيم الدولة الإسلامية – داعش”حول مصير جنود النظام في مطار الطبقة بعد وقوعهم أسرى في يد مقاتليي التنظيم، فيديو لمحادثة بين بعض مقاتلي التنظيم، وأحدهم، على ما يبدو، تونسي الجنسية، وبين جندي مأسور من جنود النظام، يوجه خلالها مقاتلو التنظيم عشرات الإهانات للجندي الخائف “الذليل”، الذي هتف في خاتمة المحادثة “الدولة الإسلامية باقية”، رغم أن مقاتلي التنظيم أعلموه بأن مصيره “الذبح”.
عاد هذا الفيديو بذاكرتي إلى نظيرٍ قديمٍ له، نال الكثير من الشهرة حينها في وسائل الإعلام العربية، تم تسريبه يومها من جانب نظام الأسد في بدايات الحراك الثوري في سوريا، يدوس خلاله جنود من الجيش على رجالٍ أُلقي القبض عليهم بتهمة “المطالبة بالحرية”، وكان أحد الجنود يقفز بكل ثقله على أحد المعتقلين، وهو يردد “بدكم حرية!”، باستهجان شديد. عبارات ذلك الجندي من جيش النظام تحولت لاحقاً إلى لازمة لغوية يكثر تردادها كتعبيرٍ عن حجم الإهانة والذل الذي قد يلمّ بكرامة المواطن السوري، فقط بمجرد أن يطالب بـ “الحرية”.
لا تختلف المنهجية الإعلامية لتنظيم “داعش” عن منهجية نظيره “نظام الأسد”. فقد سرّب الأخير خلال الأشهر الأولى للثورة في سوريا مئات الفيديوهات التي يظهر فيها جنوده وهم يُهينون سوريين معتقلين لديهم، ويتفنون في ضربهم والسخرية منهم، والنيل من كراماتهم، وصولاً إلى تأليه الأسد وشقيقه في بعض هذه الفيديوهات. وفي بعضها الآخر يظهر جنود النظام وهم يصوبون أسلحتهم على المدنيين والبيوت، وهم يرددون جملاً ساخرة، تعبر عن مقدار استخفافهم بحياة الإنسان المختبئ في تلك البيوت، أياً كان. وفي أخرى، يلقي جنودٌ القذائف من طائرات الجيش، وهم يمرحون ويسخرون، دون كثير تدقيقٍ في المكان الذي ستهبط فيه تلك القذائف، وفيما إذا كانت ستُصيب مدنيين أو أطفالاً ونساءً.
شاهدنا مئات الفيديوهات التي تُظهر عقيدة المقاتل في صفوف نظام الأسد. عقيدة مُشبعة بالحطّ من قيمة حياة وكرامة الإنسان، إن كان مناوئاً للأسد. ورغم كثرة تلك الفيديوهات، إلا أننا لم نسمع يوماً أن نظام الأسد حاسب أياً من أولئك الجنود الذين تظهر وجوههم بوضوح فيها، على إهاناتهم لمواطنين سوريين، حتى لو كانوا مناوئين للنظام، يحق لهم على الأقل أن يحظوا بمحاكمات عادلة، تحترم إنسانيتهم. مما يُدلل على أن نظام الأسد كان يريد بالفعل تسريب تلك الفيديوهات لغايات عديدة، أحدها دون شك، نشر الرعب والخوف في صفوف مناوئيه حيال مصيرهم في حال استمروا في مناوءته.
لكن “داعش” تفوق على النظام بأشواط في هذه المنهجية، ربما لأن النظام لا يستطيع أن يذهب بعيداً في تشويه صورته أمام الرأي العام الغربي، خشية أن يقطع طريق العودة تماماً أمام الراغبين الإقليميين والدوليين في إعادة تأهيله. أما “داعش”، فلا يبدو أنه يعبأ كثيراً بالرأي العام الغربي، بل على العكس، هو يريد أن يظهر كـ “وحش” حقيقي، بغية تحقيق أهدافه بصورة أسلس.
يُجمع الكثيرون من المراقبين العسكريين على أن الفيديوهات الوحشية التي يبثها “داعش” للإعدامات اليومية التي يُجريها لمناوئيه، أو أسراه من جنود النظام، تدفع المقاتلين ضده إلى الهرب في أول مواجهة معه، فسمعته كفيلة بجعلهم يفضلون الفرار، على الوقوع في قبضة مقاتليه.
هي ذاتها استراتيجية النظام، أن تُرهب خصمك عبر بث فيديوهات تُظهر مصيره في حال وقع بين يديك، لكن “داعش” تفوق فيها، لأن القيود المرتبطة بضرورة رضى الخارج عنه، كي يبقى، غير قائمة في أذهان صُناع القرار فيه.
لكن مُشتركاً آخر تُظهره تلك الفيديوهات، في عقلية كلٍ من مقاتلي النظام، والتنظيم، في آن. فمقاتلو الطرفين يحطّون من قدر وقيمة الحياة البشرية إن كانت مناوئة لهم.
حُرمة دمّ المخالف، تُبيحها “داعش” بفتاوى مُعلبة، ويُبيحها النظام بشعارات وبروباغندا محددة، أما حُرمة الكرامة الإنسانية، فهي غير واردة أصلاً في أذهان مقاتلي الطرفين.
المقاتل “الداعشي”، الذي يبدو أنه تونسي الجنسية، قال لجندي النظام، في الفيديو المُشار إليه، “هل تعرف أبوك؟…أنت لا تعرف أبوك…أنت ابن متعة”، يسكت الجندي بانكسار وذُل، ويطرق عينيه أرضاً. وبعد بُرهة، يُطلب منه أن يهتف للـ “الدولة الإسلامية”، وأن يرفع صوته. وهكذا يُكرر التاريخ نفسه، حينما كان يظهر معتقلو جنود النظام يتلقون الصفعات، والجنود يسألونهم بغيظ واستنكار: “بدكم حرية!”.
“داعش” ببساطة، الوجه الآخر للنظام، إعلاماً، وحُكماً، وعقلية. لذلك ربما يكون الأول مقتلُ الثاني. والله أعلم.
المدن