براميل على الذاكرة/ راتب شعبو
حدثنا بمتعة عن بيته في حلب في حي الميدان مقابل الجامع. حدثنا عن بيته الذي كان. قال إنه قضى في حلب سبع سنوات من أجمل أيام العمر. كان جديداً على المدينة الغنية بكل ما يخطر في البال، وبعد فترة وجيزة من سكنه ثمة، صار بيته مجمعاً للأصدقاء الحلبيين وغير الحلبيين المختلفين في مشاربهم وتوجهاتهم، فهو كاتب ويميل إلى معرفة بلاده والإحاطة بجوانبها ومعاينتها ومخالطة أهله ومواطنيه. قال إنه كان يحرص في كل زيارة إلى حلب بعدما غادرها، أن يزور الحارة ويلقي على بيته نظرة من الرصيف المقابل. لكنه في واحدة من المرات، وبينما هو يتأمل بيته من الخارج كالعادة، وجد نفسه مدفوعاً للصعود إليه. ساير نفسه. صعد السلم الذي بدا عليه التلف بفعل السنين وقلة العناية. وقف أمام الباب وتردد في قرع الجرس. لم يكن في باله أن يدخل ربما، كل ما كان يريده هو أن يرى الباب وما حوله. ثم تشجع كما لو أن بيته ناداه للدخول، مد يده وقرع الجرس بتردد أولاً ثم بإصرار في ما بعد حين لم يلق استجابة.
بقي الباب موصداً في وجهه وهو الذي كان قد جهّز جواباً لمن يمكن أن يفتح له الباب ويسأله ماذا تريد. “كان هذا البيت مسكني لسبع سنوات، وأريد فقط أن ألقي عليه نظرة من الداخل”. كان يستعد أن يقول هذا لمن سيفتح له الباب، وكان يظن أن هذا لن يتردد في السماح له بالدخول، حينها سوف يتجول قليلاً في البيت، وسوف يعري البيت من قشرته المستجدة ليجعله مطابقاً لذاته قبل كل هذا السنوات المتراكمة، ثم سوف يسمح لذاكرته القديمة بأن تنمو وتتسلق على جدران البيت الداخلية وعلى التفاصيل والتقاطعات والزوايا، وسيعود لزوجته بكنز من الصور والانطباعات. غير أن الباب لم يفتح وبقي الكلام الذي أعده بلا فائدة، وبقيت الذاكرة ثقيلة بلا سند أليف تتكئ عليه. وقف حائراً أمام الباب الأصم مثل راغب مصدود. الأبواب تتغير أيضاً. كان حين يعود إلى هذا الباب، يشعر أنه يفتح له بسلاسة تتفوق على سلاسة فتح الباب بالمفتاح. كان يقول إن بابه يفتح له ليس بفعل المفتاح بل لأنه يعرفه ويعرف وقع قدميه على السلم ويعرف رائحة ملابسه وطول قامته ونوع الأغاني التي يدندنها على السلم ويعرف ربما لون أمانيه وطعوم مشاعره وحجم مشاغله، ويعرف خفة قلبه وسرعة تأثره، فتراه يفتح له ما أن يضع المفتاح وكأنما يفتح تلقائياً. غير أنه الآن أصم وأعمى وبلا قلب يتعرف عليه. ربما بدل الباب هواه وصار مرهوناً لحب هذا الذي كتب بجانب الجرس اسمه وصفته.
محبطاً، أخرج صديقي هاتفه المحمول واتصل بزوجته: “صباح الخير.. هل يمكنك أن تخمني أين أقف الآن؟” فجاءه الجواب من على بعد أكثر من ثلاثمئة كيلومتراً: أمام باب بيتنا في حلب؟
بقيت جدران بيته الحلبي قابلة إلى أن تتحول في يوم ما إلى متكئ يتسلق عليه لبلاب الذاكرة السريع النمو. تكررت زيارات صديقي إلى حلب، لكنه في كل مرة كان يزور بيته من الخارج، ويأمل أن تكون زيارته القادمة أرحب وأكثر ملاءمة من أجل أن يحاول رؤية بيته القديم من الداخل. بقي يدفع أمله إلى الأمام وبقي هذا الأمل المؤجل حياً إلى أن مات فجأة تحت ثقل جسم ثقيل يهبط من جهة السماء ويحيل الأمل والأماني والأحلام كما البيوت إلى خراب. في لحظة واحدة جاءت له شاشة التلفزيون ببيته على شكل سحابة كثيفة من الغبار. فقد كان أن اختار البيتَ برميلٌ متفجر قبل أن يختار القدر لصديقي وقتاً مناسباً كي يزوره من الداخل.
لم يعد الأمل المؤجل مؤجلاً ولم يعد بوسع البيت أن يمنح جدرانه وتقاطيعه لصديقي كي تعرش عليها ذاكرته التي حولها البرميل إلى ذاكرة حزينة، وجردها من أليفها الحجري الذي كان يمكن أن يمنحها ذاته يوماً كي ترضى وتضخ في الماضي السعيد المفقود شيئاً من روحٍ حاضرة فتحييه قليلاً.
المدن