بربرية الشعر ونجاتنا العارضة/ شادي لويس
تعود دعوة أدورنو بعد كل مذبحة: على الحياة ألا تستمر كما هي
بين اليقظة والنوم، رأيت في ذلك الصباح لوحة زيتية لأطفال نصف عراة، متخشبي الأجساد، على شاشة هاتفي النقال. ومن بضع كلمات ألتقطها عشوائياً من النص المدون أسفل الصورة، يبدو الأمر متعلقاً بضحايا الحرب السورية. انتقلت سريعاً إلى شيء آخر، فتلك الأعمال الفنية أضحت تصيبني بالضيق، فما الحاجة إلى تمثلات الموت، إذا كان الموت في أكثر صوره وحشية، حاضراً فعلاً!
بعد ساعتين، تلقيت مكالمة من صديق، لم أعرف عنه أنه يهتم بالسياسة: “هل قرأت الأخبار؟”. أعود مرة أخرى إلى شاشة هاتفي، الصورة لم تكن عملاً فنياً… أخبار هجوم خان شيخون الكيماوي وتبعاته تتصدر مواقع الأخبار. كان الأمر مؤلماً بما يكفي، صديقى الأوروبي يضيف أن أحد الأطفال في الصورة يشبه ابنه الذي أتم عامه السابع ليلة أمس. لاحقاً، كان عليّ استكمال برنامج اليوم، زيارة إلى متحف الفن الكولونيالي في المدينة البوليفية. ست لوحات في القاعة الأخيرة عن حروب “الإسترداد” الاسبانية تبدو مثيرة للاهتمام فعلاً، وجديرة بكتابة مقال عنها، ربما يكون عنوانه: “التمثلات البصرية للإسلام لدى السكان الأصليين في أميركا اللاتينية”. بعد دقائق، فقدت حماستي للموضوع، وشعرت بالخجل قليلاً من حذلقة الفكرة.
“بعد أوشفيتز، كتابة الشعر عمل بربري”، قال ثيودور أدورنو. هو ليس من كتّابي المفضلين، فأنا أجد تناوله للموسيقى الجماهيرية، على وجه الخصوص، متعالياً ونخبوياً جداً، لكن عبارته الأكثر شعرية في نقد ثقافة الحداثة وفنونها تتردد في رأسي طوال اليوم. في المساء، وخلال عرض موسيقي فولكلوري، يعود أدورنو مرة أخرى: “بعد أوشفيتز، كتابة الشعر أمر مستحيل”. أعرف أن جدلاً طويلاً حول تعقيد نص أدورنو ذلك، ودقة ترجمته إلى الإنكليزية، قد شكك بما يكفي في التفسير السطحي لعباراته النافية للشعر، وإمكانية الإبداع. قليل من السلوى أيضاً، تحملها كلمات الشاعر الفرنسي، إيف بونفوا: “بعد أوشفيتز، كان على الشعر أن يكون أكثر ضرورة من السابق، أن يكون شرطاً لا غنى عنه”…
بعد خمسة أيام، كنت في مدينة أخرى. فارق التوقيت بينها وبين القاهرة شاسع، في الصباح تلقيت رسالة من صديقي نفسه: “تعازينا، قلوبنا معك ومع أسرتك وأصدقائك”. الأخبار عن تفجير يوم “أحد السعف”، في كنيسة طنطا، وبعدها الاسكندرية، صور الأشلاء المتناثرة مرعبة، وفيديوهات صراخ الناجين لا تقل إثارة للإضطراب. كتبت سفيتلانا اليكسييفيتش: “إن كتابة النثر عن كوابيس القرن العشرين تُعدّ دنساً. لا يمكن اختراع شيء. يجب أن تقدم الحقيقة كما هي”. تحيلنا الكاتبة البيلاروسية إلى نيتشه: ” لا يمكن لفنان أن يكون على مستوى الواقع، لن يستطيع أن يحمله”. يرد الشاعر الأميركي، تشارلز ريزنكوف، ببساطة، على سؤال أدورنو: “إذا كان سؤاله كيف لأحد أن يكتب شعراً يستوعب بربرية الهولوكوست.. فإنه سيفعل ما يفعله الفنان دائماً، بأن يجد التقنية الجمالية المناسبة”… فهل المسألة حقاً هي التقنية!
قبل عام واحد من هجوم خان شيخون، صرّح أدونيس لـ”نيويورك ريفيو أوف بوكس”: “كلمات أدورنو تمنعنا من طرح الأسئلة وترغمنا على القبول، وهذا خطأ. لا أتفق معه، فالآن تبدأ الكتابة، بعد أوشفيتز”. مَن غير أدونيس يمكنه أن يقول هذا حقاً، وبكل ثقة! يخطئ أدونيس في فهم ما يقصده أدورنو. فالنص الذي يتناول فيه الفيلسوف الألماني النقد الثقافي بالأساس، لم يكن معنياً بالشعر أو بالكتابة، ولا بإمكانياتها وأخلاقيتها أو حتى ضرورتها، بل بالأحرى كان معنياً بكشف بربرية ثقافة عصره ومؤسساتها وعملياتها التي ساهمت في إنتاج المحرقة ومهدت لها. يصدمنا أدورنو بسؤاله: ألم تكن “الأغاني الأربع الأخيرة” لشترواس، جزءاً من ثقافة ومنظومة البربرية التي تجسدت لاحقاً في النازية؟ وكيف كان لكل الإنتاج الموسيقي الكلاسيكية ودواوين الشعر ومتاحف الفن ومدارس الفلسلفة والمسرحيات والأوبرا، أن عجزت عن إيقاف مثل تلك البربرية؟ بل وكيف كان لها أن تتعايش معها؟
يعود أدورنو، بعد أعوام، لمراجعة مقولته عن الشعر: “للمعاناة المعتادة الحق في أن تعبر عن نفسها، كما للرجل المعذب أن يصرخ من الألم. وبالتالي ربما من الخطأ القول أنه بعد أوشفيتز لم تعد ممكنة كتابة القصائد. لكن ليس من الخطأ أن نطرح السؤال الأقل ثقافة، فهل ممكن بعد أوشفيتز أن نستمر في أن نحيا؟”. يخبرنا أدورنو بأن وجودنا نفسه أصبح متخيلاً، بعد المحرقة، وأن كل مذبحة ليست إلا تأكيداً آخر على استحالة وجودنا أخلاقياً، استحالة مبررها الوحيد أننا نجونا، وبالصدفة فقط.
تعود دعوة أدورنو، بعد كل مذبحة، وفي خضم المذبحة المستمرة. على الحياة ألا تستمر كما هي. والثقافة العالية، بفنونها وآدابها، في صورتها التي ساهمت في إنتاج بربرية اليوم أو على الأقل فشلت في أن تقف في وجهها، عليها أن تقرّ بدنسها وبربريتها، لا بحكم عقدة الناجي وشعور خجول بالذنب، بل بصدمة إدراكنا أن نجاتنا تلك كانت ولا تزال حدثاً عارضاً.
المدن