برهان غليون: بين الداخل والخارج
بشير البكر
سمع السوريون باسم برهان غليون في نهاية السبعينيات، وتعرّفوا إليه من خلال كتابه الذي جاء في صيغة كراس صغير صدر في بيروت تحت عنوان «بيان من أجل الديموقراطية». أطروحة الكتاب تقوم على الدعوة إلى فتح الباب على مصراعيه لمشاركة شعبية ديموقراطية، بعدما أقصت الدولة العربية المجتمع وأعلنت الحرب عليه. جاءت هذه الأطروحة في فترة تاريخية صعبة من تاريخ سوريا، كان فيها الرئيس حافظ الأسد يحاول أن يثبّت أركان الحكم، وهو يلاقي معارضة داخلية قوية ومواجهة مع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في لبنان. غليون قدم نفسه، من خلال هذا الكتاب، صاحب رأي نقدي وبشّر بولادة مفكّر عقلاني يأخذ بالتنوير الأوروبي من أجل إحياء النهضة العربية، ولم ينخرط في صفوف الأحزاب خلال فترة الثمانينيات، بل اختار مجال العمل الفكري، وعكف من موقعه في جامعة السوربون مدرساً لعلم الاجتماع على التعليم الجامعي والكتابة ضمن نسق تنظيري يقوم على التبشير بالديموقراطية
، وأعلى من شأن التنوير والنهضوية، وكان موقفه السياسي العام يدور في إطار المعارضة الواسعة للنظام السوري، وعلى مسافة قريبة جداً من القضية الفلسطينية، مثل جيل عربي واسع ونخب عربية عاشت في باريس، وكان الأقرب إلى تفكيره أبو جهاد (خليل الوزير) الذي رثاه على نحو مؤثر حين اغتالته إسرائيل في تونس.
ولأن العمل السياسي المعارض في سوريا كان قد شهد حالة تراجع بعد أحداث حماة سنة 1982، اكتفى غليون من النشاط في مرحلة الثمانينيات بالعمل من خلال منبرين، الأول هو المنتدى السوري الثقافي الاجتماعي الذي ترأسه لعدة سنوات وكان بمثابة تجمع للجالية السورية المعارضة بصبغة اجتماعية وثقافية. والثاني هو اللجنة العربية لحقوق الانسان التي كان من بين مؤسسيها سنة 1983، وقاد نشاطها وعملها في فرنسا. وعلى طول هذا المسار الذي يمتد على ربع قرن، ظل برهان غليون عند اقتناعاته ومطارحاته الفكرية. فالدولة العربية هي دولة ضد الأمة، كما حمل كتابه «الدولة ضد الأمة»، والحداثة العربية هي حداثة النخبة، إذ دخلت كحليف لمجتمع النخبة (مجتمع النخبة، 1985) ولم تكتف بذلك، بل قادت إلى «اغتيال العقل» من خلال سجالاتها العقيمة التي جعلت من المثقفين العرب حراساً لأوهام وشرطة لعقائد وأيديولوجيات، سعوا إلى فرضها على الجماهير العربية عنوة.
ورغم عمومية مفهومي الديموقراطية والمجتمع المدني في العالم العربي، ظل غليون يرى أن سحر القول في الديموقراطية يجعل منها ضرورة تاريخية. وهذا ما يبرر فاعلية القوى السياسية السورية التي تجمع على شعار الديموقراطية، مسقطاً في الوقت نفسه كل المبررات التي تهدف إلى تأجيل الإصلاح السياسي والديموقراطي تحت حجج واهية، كالقول بعدم نضج المجتمع، وإن تجربة الديموقراطية لا تناسب مجتمعاتنا، وإنها بذرة غريبة لا تنبت في تربتنا، وإن الأولوية للإصلاح الاقتصادي على الإصلاح السياسي، إلى ما هنالك من الحجج التي تكاثرت في البلدان العربية، وخصوصاً في سوريا بعد وصول الرئيس بشار الأسد إلى الحكم سنة 2000، حيث واجه تجربة «ربيع دمشق» استناداً إلى هذه الذرائع.
ولخّص غليون نظرته السياسية إلى الواقع السوري في كتاب صدر سنة 2003، وهو كناية عن حوار أجراه لؤي حسين مع عدة شخصيات، وصدر تحت عنوان «الاختيار الديموقراطي في سوريا». ويقول غليون «بإخفاق الحركات القومية في تطوير نظام ديموقراطي، وهو إخفاقها في إقامة نظام اقتصادي ثابت ومستقر وناجح، ما يعني العجز عن بناء دولة حديثة بمعنى دولة مؤسسات، وبقيت السلطة التي ظهرت تحت قيادة حركات قومية سلطة شخصية. بعبارة أخرى، هذه الحركات عملت على تشخصن السلطة ولم تعمل على بناء مؤسسات». وينطبق ذلك على «تاريخ حزب البعث في كل من سوريا والعراق، وكذلك الحركة الناصرية».
نشط غليون مثل بقية دعاة التغيير في تجربة ربيع دمشق، وزار سوريا في هذه الفترة عدة مرات، ولكنه انكفأ مثل غيره وعاد إلى الكتابة والتنظير بعد منع المنتديات، وبقي حاضراً في ميدان حقوق الإنسان، ولم يعد إلى العمل السياسي المباشر إلا مع «اعلان دمشق» سنة 2005، حيث انخرط مجدداً في معارضة النظام، واشتغل مع بقية المعارضين السوريين في ميدان حقوق الإنسان، ولم تستهوه الدعوات إلى السير في ركاب الضغوط الخارجية على النظام السوري بعد صدور القرار 1559 واغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان، بل ظل يتردد على سوريا رغم المضايقات الأمنية المتكررة التي لم تصل إلى حدود السجن أو المنع من المغادرة، مثلما حصل لمعارضين آخرين من أمثال رياض الترك وميشيل كيلو ورياض سيف، الذين يعدّون رموز تجربة المنتديات وربيع دمشق.
ظل غليون يتحرك سياسياً داخل حدود نشاط المعارضة، وحافظ على مسافة من كافة الأطراف الشيوعية والناصرية والإسلامية، رغم قربه الشخصي من رياض الترك وصلة الصداقة التي تجمعهما. ولم يمنع ذلك بعض الأوساط من وضعه ضمن كادر الإسلامي المعتدل. وفي كل الأحوال، بقي غليون أحد القلة المواظبين، من بين السياسيين السوريين الذين عاشوا في الخارج، على الحفاظ على صلاته بالمعارضة في الداخل والخارج. ولأنه لم يحترف العمل السياسي بالمفهوم الحزبي، ظل يحظى بشعبية في كافة الأوساط.
وحين انطلقت موجة الاحتجاجات الشعبية في سوريا في 15 آذار الماضي، كان غليون من بين الذين سارعوا إلى تأييدها، وتحرك مع بقية المعارضين في فرنسا في إطار إعلامي ونشط لإعادة لمّ شمل المعارضة في الخارج، ولكن موقفه من المؤتمرات التي انعقدت في الخارج تغيّر من رافض لها إلى مشارك فيها. وعلى سبيل المثال، رأى في «مؤتمر انطاليا» الذي انعقد في نهاية أيار الماضي، أن منظّميه يعملون «لمصلحة أجندات خارجية»، وكتب على صفحته على فايسبوك «لو كان لديّ ثقة ولو قليلة بأن هذا المؤتمر يخدم بالفعل هذه الأهداف أو بعضها، لما ترددت لحظة في انضمامي إليه، لكنه ليس كذلك. هو يجمع بين الكثير ممن يريد أن يستفيد من الثورة ويستغلها لخدمة أجندات خاصة، ومنها أجنبية لسوء الحظ، وقليل جداً ممن يفكر بالفعل في خدمتها والتضحية من أجلها. هذا هو تقديري على الأقل». وأضاف «كان إعلانه مفاجأة لي، لأن منظّميه كانوا على اتصال بي وكنت قد وعدتهم بأننا نعمل مع الداخل لبلورة مبادرة جامعة، مع الاعتراف بأن بطء الداخل قد أساء إلينا أيضاً، وفتح الباب أمام مثل هذه المبادرات الضعيفة والمليئة بالمفاجآت غير السارة».
وكان أحد منظّمي ذلك المؤتمر، الكاتب عبد الرزاق عيد، قد هاجم غليون وقال «إنه يريد اقتسام الغنائم لعدم حضوره هذا المؤتمر». هذا الموقف لم يمنع غليون من حضور «مؤتمر إسطنبول» في منتصف تموز، الذي انعقد تحت اسم «مؤتمر الإنقاذ الوطني»، وطغى عليه الحضور الواسع للإخوان المسلمين الذين تمثّلوا برموز بارزة مثل المراقب العام السابق علي صدر الدين البيانوني، وكانت قد طرحت في ذلك المؤتمر لأول مرة فكرة تأليف مجلس وطني انتقالي اختير من 25 شخصية، ليس من بينهم غليون الذي أعلن أنه حضر بصفة مراقب، وأبدى اعتراضه على هذه الخطوة، وعبّر عن موقف مختلف بالدعوة إلى مجلس وطني يضم كافة تشكيلات المعارضة، وهو ما بلوره أخيراً في ورقة نشرها في الثاني من الشهر الحالي تحت اسم «ورقة طريق للمجلس الوطني الانتقالي»، وذلك كرد فعل على إعلان صدر في نهاية الشهر الماضي وسمّى أكثر من 90 شخصية أعلنت غالبيتها عدم معرفتها به، وجرى النظر إلى ذلك الإعلان على أنه ارتجال من قبل بعض الأطراف في المعارضة.
موقع غليون من الحراك الاحتجاجي حدّده في نهاية شهر حزيران، حينما أعلن في دمشق تأليف «هيئة التنسيق الوطني للتغيير الديموقراطي»، برئاسة المحامي حسن عبد العظيم، زعيم التيار الناصري. وقال غليون «تكرّم قادة أحزاب المعارضة وعيّنوني منسّقاً للهيئة في المهجر، وهي مهمة لم أتوقف منذ بداية الثورة عن القيام بها، قبل تأليف الهيئة وسأقوم بها بعدها». ورغم أن غليون لم يعترض على الدور الذي أسند إليه، أخذ جانب «التنسيقيات»، وقال «غنيّ عن القول إن التزامي الأول والأكيد كان وسيظل لثورة الشعب والشباب السوري الذي أظهر بطولة فائقة في الدفاع عن حضوره وحقوقه ومبادئه»، وأضاف «في اعتقادي لا توجد هناك قوة أخرى يمكن المراهنة عليها من أجل فرض التغيير الديموقراطي وتخليص الشعب والبلاد من كابوس النظام الحالي ووقف العنف وعمليات التنكيل بالسوريين سوى القوة التي تمثّلها تنسيقيات الشباب التي تمثّل الطليعة الحقيقية للثورة السورية الراهنة». ورأى أن «المعارضات الحزبية وغير الحزبية هي مجرد قوى رديفة ومكملة، ليس لها أي وصاية سياسية أو معنوية، ولا يحق لها أن تفرض أي حل يتعارض مع ما يتفق ومطالب شباب هذه التنسيقيات التي قدمت ولا تزال تقدم أعظم التضحيات لتحرير البلاد من طاعون الاستبداد والفساد».
أما الموقف من القضية الأساسية التي تدور من حولها معارضة الداخل، فقد حدّد منها غليون سقفاً أعلى، «وحول ما تطرحه السلطة وبعض وسائل الإعلام عن احتمال الحوار الوطني، أود أن أؤكد أن السلطة ليست في وارد الحوار وليست مستعدة لتلبية شروط أي حوار ذي معنى، وأن أي حوار يحصل في المستقبل لا يمكن أن يشمل أشخاصاً ومسؤولين أسهموا في قتل الأطفال والنساء والشباب العزّل، أو أعطوا الأوامر بقتلهم، وأن إطلاقه لا معنى له ما لم يكن هدفه بوضوح تفكيك نظام القمع والقهر والاستبداد، واستبداله بنظام ديموقراطي يكون فيه القرار الأول للشعب وحده، وتكون فيه الحكومة ذات سلطة كاملة، خاضعة لنواب الشعب ومسؤولة أمامه. في هذه الحالة، لا ينبغي أن يعني الحوار تسوية مع النظام أو توسيع دائرة المشاركة في السلطة كما يريد أصحاب السلطة لإنقاذ نظامهم، بل التفاهم على روزنامة الانتقال بالبلاد نحو الديموقراطية بوسائل سلمية، أملاً بتوفير المزيد من الضحايا البشرية والخسائر المادية، وبناء المؤسسات الجديدة وتوفير الشروط اللازمة لحسن اشتغالها». ورأى أن «قادة النظام الحاليين، من سياسيين ورؤساء أجهزة أمنية، فقدوا شرعيتهم عندما قبلوا باستخدامهم العنف الدموي تجاه المتظاهرين السلميين».
الخلاصة التي توصل إليها غليون من خلال محاوراته مع الداخل والخارج، هي «أمام رفض النظام التفاهم مع شعبه، وتصميم رجاله على سياسة القتل والقهر والاستعباد، لم يعد أمام السوريين اليوم خيار أو احتمال خيار آخر سوى التعاون من أجل الانتقال بسوريا إلى نظام ديموقراطي مدني تعددي يساوي بين كافة مواطني سوريا، أو الانزلاق الأكيد نحو العنف والفوضى والخراب».
دعوة غليون إلى تأليف مجلس وطني انتقالي لا تحظى بالإجماع من قبل المعارضة، وهناك من يرى أنها مستعجلة وتسعى إلى حصد الثمار قبل الأوان، وهي تحيل على السيناريو الليبي، رغم الفارق الكبير بين الحالتين السورية والليبية. فالليبيون حين ألّفوا مجلسهم كانوا قد استولوا على مدينة بنغازي، وصاروا يتحكمون في جزء من البلد، وهو الأمر الذي لا ينطبق على الوضع السوري. ولذا سوف يفسّر تأليف مجلس سوري انتقالي بأنه من قبيل التمهيد لاستدراج التدخل الخارجي. معضلة أخرى تواجه غليون، وهي عدم وجود إجماع عليه بين الداخل والخارج، ذلك أن جزءاً من معارضة الداخل لا يقرّ له بأكثر من دور منسّق لعمل المعارضة في الخارج، بينما يرى تيار آخر أن وجود غليون في الواجهة يمثّل ضمانة في هذه المرحلة، لكونه رجلاً وطنياً وحريصاً ونزيهاً، ولكن في الوقت نفسه يرون أن هناك فئة من المعارضين الجدد الذين أخذوا يظهرون في المشهد الخارجي، بعد أن ضعف النظام، وهؤلاء في غالبيتهم من رجال الأعمال وبقايا مستشاري النظام الذين تخلى عنهم سابقاً، وركبوا الموجة الراهنة طلباً لأدوار، وهم لا يأخذهم الحرص على التغيير في سوريا بقدر ما تعنيهم المكاسب التي يجنونها من المعارضة.
الأخبار