صفحات سوريةغازي دحمان

بشار الأسد: أنا الدولة والدولة أنا/ غازي دحمان

 

في لقاء لبشار الأسد مع وفد من وجهاء ريف دمشق، ولدى شكوى أحد أعضاء الوفد من أن الدولة تقوم بضرب المواطنين مما دفع البعض إلى الوقوف بوجهها، حيث دعا عضو الوفد الأسد إلى أخذ ذلك في الاعتبار، وقد أزعج هذا الكلام الأسد ورد عليه قائلاً: «إن الدولة مثل رب الأسرة، ورب الأسرة له الحق في ضرب أولاده وتأديبهم عندما يرتكبون أخطاء، ولكن الأولاد لا يستطيعون الرد على رب الأسرة بالضرب، إذ من غير اللائق والمنطقي أن يقوم الابن بالرد على أبيه وضربه، وهكذا هي الدولة لها الحق بضرب مواطنيها الذين يخالفون، ولكن ليس للمواطنين أن يضربوا الدولة».

يتعاطى بشار الأسد مع السوريين بوصفه هو الدولة السورية، وكل ما عدا ذلك، بما فيها الشعب والأرض، هي أطراف أو أشياء متغيرة قابلة للزيادة والنقصان، وحتى أولئك الذين ينخرطون معه في إطار ما يسمى الدائرة الصلبة للنظام، ليسوا سوى مجرد ممثلين للدولة ومنفذين لأوامره. الدولة هي سيادته فقط.

المشكلة في هذه الترسيمة أنها تصنع معادلة غير متوازنة ولا يمكن معها حصول التوازن ولا حتى في الخيال، ذلك أن الدولة متغير ثابت، لا يطاله التغيير إلا في حالة واحدة وهو زوال كيانيتها عن الوجود بفعل متغيرات إقليمية وكونية كبرى ذات طبيعة جيواستراتيجية. وهذا المتغير تنتجه بيئة متغيرة تطال تغيراتها مساحة أكبر من الدولة المعنية وقد تصل إلى حدود تغيير تراتبية النظام الدولي، وآليات عمله والنظام الإقليمي ومترتباته، وهو لم يحصل إلا في ظروف معينة مثل حالة تفكك الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، أو تفكك الإتحاد السوفياتي نهاية الحرب الباردة، وتفكك يوغسلافيا في منتصف تسعينات القرن الماضي.

مقابل ذلك، يبدو أن أركان الدولة الأخرى في العرف الأسدي، هي أركان هامشية قابلة للتحول والتبدل، من دون أن ينعكس ذلك في وضع الدولة واستمراريتها، فليس مهماً أن يجري، وبشكل قسري، تهجير ملايين من» المواطنين»، أو حتى استبدالهم عبر تجنيس أعداد من مواطني الخارج لاعتبارات موقتة (انتخابية أو عسكرية أو سواها)، هؤلاء المواطنون من الممكن شطبهم في أي لحظة، مثل قرار منع مشاركة المهجّرين السوريين في الانتخابات الرئاسية، وكذلك ليس مهماً التخلي عن جزء من الأرض تحت ذرائع مختلفة، كأن يتم هذا التخلي عنها، أو إخراجها من مسؤولية الدولة عنها، كعقاب لسكانها الذين احتضنوا الثورة، أو قد يحصل ذلك لمراضاة دولة أخرى، كما جرى إخراج لواء الإسكندرون من الجغرافيا السورية لصالح تركيا.

انطلاقاً من تلك القواعد يخوض بشار الأسد انتخاباته الرئاسية. فهو يطرح في هذه المعادلة الدولة بصفتها ثابتاً وستبقى كذلك، والمطلوب من هذه «الانتخابات» ترسيخ هذه الحقيقة، وتثبيتها على مدى زمني يصل إلى ما بعد الأبد، إلى الوريث الآخر الذي سيلي على القائمة، بعد أن ينهي الرئيس» الدولة» الحالي دورته الحياتية، تماماً مثل سابقه، الرئيس» الدولة» الراحل حافظ الأسد، وعلى ذلك، تنطوي عملية ترشيح الأسد لإعادة نفسه حاكماً لسورياً على الأطروحة التالية: ما حصل طوال الأعوام الثلاثة الماضية كان حالة دفاعية شرعية عن الدولة، وكل ما فعلته الدولة وارتكبته لم يكن سوى رد فعل طبيعي على هجوم تعرضت له.

والآن، فإن الانتخابات تأتي لإكمال السياق المذكور. هي ليست سوى واحدة من أدوات الحسم، ليس في مواجهة المعارضة الداخلية، وإنما في سياق إعادة تأهيل الدولة ووضعها على سكة استعادة دوائر علاقاتها مع البيئة الدولية، بوصفها الممثل الوحيد والحصري لسوريا.

في منطوق بشار الأسد، يحمل هذا الطرح مضموناً ديموقراطياً فعلياً، يتمثل في أن ما حصل في سوريا، حتى لو جرى اعتباره عملية قمع جرت ممارستها بسقوف عنف مرتفعة، فهي كانت عملية حصرية موجهة ضد فئات أو شرائح مارست النوع ذاته من العنف تجاه الدولة، والانتخابات اليوم هي لإثبات محدودية نسبة تلك الفئات والشرائح، مقابل إظهار الضفة الأخرى المؤيدة، وبالتالي محاكمة مرحلة السنوات الثلاث الماضية تبعاً للنتيجة التي ستفرزها صناديق الانتخابات. من هنا يأتي شعار «سوا» الذي يطرحه كشعار لحملته الانتخابية.

بالطبع، يسعى نظام بشار الأسد الى فرض منطقه بوصفه المنطق الوطني السليم، وباعتباره حقاً وطنياً يقوم على مبدأ تقرير المصير، في ما يبدو انه احتكار لهذا الحق من طرف فئة أو طرف معين، وكأن بقية السوريين ليس من حقهم تقرير مصيرهم. ويسعى النظام الى وضع العالم أمام خيارين، إما ان تقبلوا العملية بوصفها حقاً وطنياً أو فإن أي اعتراض هو تدخل في الشؤون الوطنية، وهو كما أسلفنا يضع نفسه على أنه الطرف الوطني الوحيد فقط، بالنظر لاحتكاره السلطة، واستناداً على قاعدة تمثيلية وهمية، غير موجودة على أرض الواقع.

هل ثمة من يلحظ ان نظام الأسد، وفي طريقه لتظهير هذه المعادلة، ارتكب العديد من جرائم الحرب بحق فئات سورية عدة، حيث عمل على تطهير مناطق سورية واسعة لتنظيفها من معارضيه، وإحلال مواليه مكانهم، ودفع بملايين رافضيه الى مخيمات النزوح والتشرد، وحاصر، ولا يزال، ملايين آخرين يرفضون حكمه؟ والأهم من كل ذلك عبثه بالجغرافيا السورية وتدميره المتواصل ولبيئة الحياة فيها من أجل غرض واحد، وهو إظهارها على أنها مناطق خارجة ليس فقط عن حكمه وإنما عن الحياة العصرية، بعد أن مهّدها كبيئة صالحة لزراعة كل أنواع التطرف، وبذلك صمّم سوريا على مقاس انتخاباته ومقاس دستوره!

هو الدولة، والدولة هو، الباقي ليس أكثر من ديكور، يمكن تعديله وتغييره، ليناسب قوام الدولة وقوالبها، بدءاً من القوانين والدساتير وانتهاءً بالسكان والجغرافيا. ولا شك ان هذا الشكل من الدولة ظهر في مرحلة تاريخية تعود إلى القرون الوسطى، ما قبل عصر الحداثة ومنجزاته الحقوقية والدستورية، وأشكال نظم الحكم. وكأن بشار الأسد يريد من السوريين إعادة السير انطلاقاً من تلك المرحلة، عملياً، الأسد قطع نصف المسافة على هذا الطريق عندما أعاد سوريا، عمراناً ووحدة وطنية، الى ذلك العصر!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى