بشار الأسد الذي سرق سيرتي
إيلي عبدو
حين طلب الروائي والصحافي اللبناني محمد أبي سمرا أن يسجل بعضاً من سيرة حياتي، في زمن الاستبداد البعثي الساكن، كيف عشت؟ كيف كوّنت وعي؟ ظننت أن الأمر سيكون مساحة للإفصاح عن كبتٍ طالما تراكم في الداخل وخرّب الكثير من الرغبات.
ضغط على آلة التسجيل وبدأ يسألني عن طفولتي، علاقتي بأهلي وإخوتي، تنقلات العائلة بين بيروت واللاذقية. جاءت الأسئلة مباغتة بالنسبة لشخص بقيت سيرته معتقلة وراء قضبان نفسية مثل كل شيء في بلده. إجاباتي كانت مقتضبة، فأنا لم أعتد على السرد الشخصي والحميمي والخاص، رحت أهرب إلى أجوبة سياسية جاهزة تتحدث عن الاستبداد بوصفه منظومة متكاملة تلغي الحياة وتعطل متعها.
حاول محمد بذكائه وحنكته الصحافية أن يخرج السيرة أو بعضاً منها، لكن ذلك لم يحدث. تبدّت الشهادة رزمة من الآراء السياسية لرجل ذو سيرة مُفككة وأحيانا غير مُقنعة. في الحقيقة لم أجرؤ أن أخبر محمد بكل شيء رغم فقر ما أفصحت عنه، كنت أقفز عن بعض التفاصيل وأتنصّل من أخرى.
بعد أيام على هذه الواقعة بِت قريباً جداً من سؤال قاسٍ، أين سيرتي الشخصية. متى أحببت؟ ومتى عملت؟ كيف درست؟ ولماذا حين سألني محمد إذا كنت انتسبت إلى حزب سياسي. أجبت نافياً بخجل وارتباك.
لقد قتل البعث سيرتي. الاستبداد يكره السير وينكّل بها، يجعلها خاوية من دون معنى. طوال أربعين عاماً كنا مجرد أرقام نتوهم أننا “بشر وتواريخ وأمكنة” (عنوان ديوان للشاعر منذر المصري). لم يكن لنا تواريخ شخصية. فالتاريخ الوحيد هو تاريخ الرئيس وإنجازاته، والأمكنة مصادرة لصوره وتماثيله، فيما البشر كائنات ببغاويّة تردد شذرات من خطاباته. لم أملك يوماً حقّ الاستفراد بذاتي. الخروج عن الصف البعثي الذي كنا نصطف به كل صباح لنردد شعارات العروبة والوحدة كان جريمةً. لا بل خيانة عظمى.
هناك في البلاد الرمادية عشنا الاستبداد الذي نزع فرديتنا وتركنا جزءاً من مجموع صلب ومتراص . في السجون السياسية كان يعاقب السجين إذا لفظ اسمه، فهو عبارة عن رقم. وفي الخارج كذلك، كنا نعاقب فيما لو أردنا منح أسمائنا صفات وأفعال ورغبات. الأفراد ممنوعون من الظهور في بلاد تنتشر الفروع الأمنية في زواياها وتكون هويتها. لقد تآلف الاجتماع البشري مع وجود هذه الفروع. وظيفة المخابرات لا تنحصر بقمع الناس واعتقالهم حين ينتقدون السلطة، وظيفتها تتعدى ذلك نحو تطبيعهم بسمات واحدة، جعلهم نسخاً متشابهة. الفروع الأمنية هي كناية عن دور النشر التي تطبع منشورات البعث، لكن الإصدارات هنا بشر من لحم ودم.
الخرافة الكبرى التي عشناها أو التي حاولت بروباغندا النظام إقناعنا بها، أن في بلادنا استقرار وأمان نستطيع فيها فعل أي شيء تجارة ودراسة وعمل وسهرات، دون أن نتحدث في السياسة أو نتمكن من ممارستها. اكتشفنا متأخرين أن وطناً من دون سياسة هو بالضرورة من دون سير وفرديات. كيف نعيش من دون أن نحدد منطق عيشنا ووجهة سيره. السوريون كانوا موتى يمثلون دور الأحياء، وكثيراً ما استطاعت احترافية التمثيل أن تقنع العالم أن هذه البقعة المُسماة سوريا، تحوي أشخاصاً سعداء يذهبون إلى المسرح والسينما ويستمتعون بأوقاتهم، فيما البلاد كانت عبارةً عن مقبرة مزينة.
الحق أن بشار الأسد سرق سيرتي وسير الكثيرين. ليس السجناء السياسيين وحدهم من فُنيت أعمارهم في بلاد الأسد السُلالية، ودخلوا في صباهم إلى الزنازين المظلمة ليخرجوا عجائز. جميعنا كنا كذلك، الفرق أن السجناء راكموا سيرة مضادة لتلك التي تتوخى عادية الحياة، فعاشوا تفاصيل التعذيب والقمع اليومي المباشر. نحن بقيت سيرنا فارغة تتحرك بعبث من دون جدوى. نسير في شوارع مدننا ونحدّق بصورة القائد وقد بدا عملاقا يحذرنا: لا سير لكم. أنا السيرة الوحيدة في البلاد، وأنا التاريخ الرسمي والهامش.
محمد لا يزال ينتظر أن نستكمل الشهادة، لا يعرف أن آلة التسجيل التي يستخدمها تخيفني، لأن الكلام في بلدي كان دائما اعترافاً بجرم ما، و لم يكن يوماً بوحاً عن سيرة معتقلة.
المدن