صفحات الحوار

بشار العيسى: ثورة شعبية تتعرض للسطو عليها من المعارضة


سالم العبدول

هناك نوع من التواطؤ العربي والدولي على الثورة السورية

بدا لي أول ما فكرت بإجراء هذه المقابلة مع التشكيلي والمثقف السوري البارز بشار العيسى، أنه يريد التنصل من موقعه كفنان تشكيلي، كان عسيراً على الفهم أن يكسب واحد من التشكليين البارزين صورة المعارض السياسي قبل أي شيء آخر. لكنه سرعان ما يوضح «أعترف بعجزي عن الذهاب إلى اللوحة وحلقي مملوء بالدم والتراب». ولعل حاله هو حال كثير من المبدعين الذين وجدوا أنفسهم في المظاهرة، وفي المعتقل، بل وشهداء على درب الحرية. هذا وحده ما يفسر أحوال المبدعين السوريين الذين عزفوا عن حياتهم، أو كرسوها للثورة في بلدهم، لا يتحدث العيسى في هذا الحوار عن الفن إلا لماماً، ويبدو مشغولاً بهواجس تتعلق بأحوال الثورة، مشكلاتها، ومستقبلها.

÷ هل كانت الثورة متوقعة بالنسبة لك؟ أي مفاجآت حملتها إليك؟

} ما فاجأ الجميع ليس الثورة السورية بل الثورة التونسية: كيف أضرمت رعشة كرامة شعبية لشاب نيراناً غاضبة في عروش الاستبداد. نعم، بعد ثورة تونس ومصر وليبيا صار من الواضح أن الثورة السورية لن تتأخر. ولكن لا أحد يستطيع القول إنه تنبأ بأنها ستنطلق من درعا بهذه القوة وبهذه العصرية والروح النهضوية العالية والانتشار السريع.

سبقت انتفاضة أهلنا في حوران وقفات كلاسيكية لمجموعات ثقافية وشبابية تضامنية مع شعوب الثورات العربية، وفي تجمعات رمزية هنا وهناك لكنها ليست ما أطلق الثورة. صحيح أن صرخة بضعة من التجار «الشعب السوري ما ينذل»، أعطت مؤشراً نوعياً لخطاب حوّله نشطاء درعا إلى شعارات من قبيل «الموت ولا المذلّة» و«اللي بيقتل شعبو خاين» انتشرت صرخات تمرد كرامة شعب كالنار في هشيم ذلّ الاستبداد. صرخت كرامة درعا، في أقصى الجنوب الغربي، لأظافر أطفالها ودماء شهدائها، فلبّتها عامودا الكردية في أقصى الشمال الشرقي «بالروح، بالدم، نفديك يا درعا». هنا تفاجأنا جميعاً، ومن يقول غير ذلك يجانب الحقيقة.

هذا من دون أن نغفل أن السلطة ساهمت مساهمة كبيرة في تسريع الثورة بالهرب إليها مخافة أن تأتيها من حيث لا تدري فوقعت في مصيدة الحلقة الحورانية. ظنتها الأضعف فإذا هي هشيم ينتظر الشرارة.

أول مفاجأة من مفاجآت الثورة السورية، التي تميزت بها عن باقي الثورات العربية هي سرعة شمولها كامل التراب الوطني بلا قيادة مركزية يسهل اصطيادها. وهذا يعني أن كل ممارسات السلطة الفتنوية ذهبت أدراج الرياح. المفاجأة الثانية كانت روحها الشبابية ومسارعة الثوار إلى تنظيم أنشطتها في تنسيقيات عصرية وانصرافهم عن التحزب والمناطقية والطائفية. لقد أثبت شباب سوريا ثوريتهم الحقة وكأنهم تدرّبوا على الثورة لسنين. لم نسمع نغمة نشازاً ولا شعاراً فئوياً بل تدرّجت شعارات التنديد بأهل السلطان من صغار الحكّام المحليين (المحافظين) إلى عتاة الفاسدين والمجرمين المباشرين (أسرة الدكتاتور ورؤساء أجهزته من دون طائفته) وحين عجزت الدماء عن فتح ثغرة وجدانية واحدة في مؤسسات السلطة نطقوا بحكمهم القاطع «الشعب يريد إسقاط النظام»، خلافاً لغالبية مدّعي الأبوة الروحية من ممتهني «السياسة» و«المعارضة» و«الثقافة» و«الفكر» الذين انتظروا طويلاً قبل أن يخيب بشار الأسد كل آمالهم في استعمالهم برتبة أو راتب.

÷ إلام تعزو تأخر الحسم في الثورة السورية؟ إلى شراسة استثنائية من النظام؟ أم إلى فساد مقيم ومديد يثقل كاهل الثورة؟

} ثمة عدة عوامل أسهمت في تأخير سقوط النظام وتظل تفعل فعلها: الاعتقالات السريعة والواسعة التي طالت جيل الثورة الأول، وعمليات القتل الوحشية التي استهدفت أغلب النشطاء البارزين، حالت دون امتلاك الثورة قيادة سياسية ذات رؤية وبرنامج للتغيير والانتصار. وأدى تصارع التنسيقيات ودخول الحزبيات المعارضة دوراً عرقل إنجاز مهمة تشكيل قيادة ذات خطة سياسية وبرنامج انتقالي ورؤية لسوريا المستقبل.

الحقيقة أن الثورة السورية انتصرت بكل المعايير لكن السلطة لم تسقط. صحيح أن شراسة النظام غير المتوقعة بعد صمود القذافي بعكس مصر وتونس، خيبت طموحات كثيرين تصوّروا أنه سينهار مثل التونسي والمصري، أو أن العالم الخارجي سيأتي لنجدة الشعب السوري كما حدث في ليبيا. هذا ما دفع بقوى الثورة الشبابية إلى الخضوع لعملية قيصرية القبول بتعهد من الباطن تم خداعها به: عليكم أن تفوِّضوا أمركم سياسياً إلى مجموعة مرضي عنها دولياً (اميركا، فرنسا، تركيا، والعرب) حتى يتدخل العالم لإسكات نيران الأسد وإسقاطه وإقامة سلطة ديموقراطية. هذا الوهم هو الذي فتت القوى نسبياً وأضاع الكثير من الجهود التي ذهبت سدى في فوضى غير خلاّقة واستقطابات غير بريئة في مواجهة نظام معروف بشراسته التي خبرها على الأقل من عايش نشوءه وتطوره وحجم علاقاته الإقليمية والدولية، ناهيك عن حقيقة أن لا مصلحة لأي قوة إقليمية أو دولية في انتصار الديموقراطية في سوريا، بل يرون أنها ستكون عبئاً على كل المحيط. وبدلاً من أن تساعد المعارضة ومتعهدوها الثورة أصبحت تدخلاتهم عبئاً عليها.

قناعتي أن هناك نوعاً من التواطؤ الدولي والعربي على الثورة السورية. إذ لا شيء يبرّر أو يفسّر هذا الصمت المريب إزاء قتل السوريين بهذه الوحشية، غير قطع الطريق على تحول ديموقراطي في بلد ذي موقع استراتيجي قد يرسي سابقة إقليمية. نعم هناك ما يشبه رسالة جماعية من العالم بأسره ومنظوماته بكاملها، يتم إبلاغها عند ارتقاء كل شهيد وعند سقوط ركام كل مدينة في سوريا: ممنوع أن تتمرد الشعوب على حكامها، فمصالحنا كحكام تتقدم على قيم حقوق الإنسان والشعوب وتعلو عليها. فنحن، طغمة الحكام بل النفايات الاقتصادية الرأسمالية وخثارة العقائد الموحّدة حول المال بالفساد، سنجعل من الشعب السوري مثلا يردع كل من تسوّل له نفسه أن يتمرّد.

÷ تقول إن «جيلنا هو نصف مصائب الثورة»؟ ألا تعتقد أن القول بذلك هو نوع من جلد الذات؟

} لا، ليس جلداً للذات. إنه عملية نقد موضوعية. وليس مسألة جيل كامل بقدر ما هو نقد واقع تجارب سياسية فاشلة، بأحزابها ورؤاها وثقافتها التي ساهمت في نشوء وتطوير الاستبداد بغير معرفة، بل بجهالة ذكية.

÷ هل ترى أن الثورة الراهنة بدأت من الصفر؟ أم أنها تراكم نضالات طويلة منذ عقود؟

} لا، لا شيء يبدأ من الصفر. الثورة نتاج كمون ولكنه كمون خاص بجيل الثورة. فهي، والحق يقال، ليست ثورة «معارضة» حزبية، ولا ثورة إيديولوجية، ولا ثورة تلامذة «أبوات» نهلوا من خيباتهم، بل هي ثورة كرامة شعب أفقرته وأذلّته سلطة طغت فتجبرت وتواقحت بفجور دفع بالناس إلى إيثار الموت على المذلّة. فتمرّد الشعب على السلطة وعلى النخب في لحظة غليان وفق قوانين الطبيعة السليمة، قوانين المادية والديالكتيك التي مسخها أهلها فأطلقها من إسارها شباب رأى هول ما سيم به أطفال درعا، على غرار ما فعلته محرقة بوعزيزي التونسي، فثار على خنوعه أولاً، حين رأى قسوة المهانة فقرر رفع الإهانة حتى إذا كان دونه الموت.

الكرد

÷ لا تريد، ربما، أن يُنظر إليك كمعارض كردي، هذا بحد ذاته جواب، وحل لمعضلة الكردي – السوري. هل تعتبر هذا الحل (إزاحة الكردي لصالح السوري) أمراً مرحليا، أم ماذا؟

} أنا أولاً وأخيرا كردي، فخور بكرديتي، رغم أنني لم أتحزّب كرديا لأني كنت دائماً معارضاً شيوعياً مطالباً بالديموقراطية. لكني اليوم أرى في استخدام اليافطات استهتاراً بدم الشعب السوري وكرامته الانسانية. ليس في الأمر إزاحة. فسوريا دولة تسقط بغير اربع مكوِّنات تاريخية كردية عربية مسلمة مسيحية، بثقافات ومذاهب ساهمت كلها على مدى التاريخ في بناء هذا الوطن الجميل رغم فحش الاستبداد وديمومته. نحن في ثورة طال استعارها لتحقيق حلم تأخر، في مواجهة سلطة شيطانية شرسة. ثورة شعبية بغير قيادة ميدان تعاني من محاولات السطو عليها من المعارضة، كل المعارضة فلا أستثني أحداً، ومن دول الجوار والشيطان المالي، يريدون تصغير رأس الثورة ليتوافق مع حجم الطرابيش الجاهزة المهترئة. وهنا لا أسبر النيات بل أتناول الأفعال والأقوال. فكل وسائل وخطابات المعارضة الحزبية المتكلّسة والقاصرة تؤدي إلى خنق الثورة في ظل الافتقار إلى رؤية سياسية مقترنة ببرنامج واضح معلن صريح بدلاً من الكلام الذي يؤجج الصراعات ويفتت الجمع ويترك للخصم خنادق ينفذ منها.

صحيح أن الكرد عانوا اضطهادين، اضطهاداً من السلطة لحق بكل الشعب السوري، واضطهاداً من منظومة المجتمع السوري التي عاملتهم كعدو خارجي عاملة على مدى خمسين سنة لتدميره ورميه إلى الهامش. ومع ذلك لم يتعامل الكرد برد الفعل بل تحلّى المجتمع الكردي بوعي سياسي وطني جامع. منذ منتصف السبعينيات والسلطة تسعى عبثاً لتجعل من الكرد مطية فئوية:

قياساً إلى سائر مكوِّنات الشعب السوري نجد أن نصيب الكرد النسبي من أعضاء حزب البعث أقل من واحد في المئة ألف، وأن نصيبهم النسبي من أعضاء أجهزة الاستخبار أقل من واحد في المئة ألف، وأن نصيبهم النسبي من أعضاء التشكيلات الفئوية والسلطوية أقل من واحد في المئة ألف، وأن نصيبهم النسبي من المسيَّسين أكثر من ألف في المئة، وأن نصيبهم النسبي من المشاركة في التمردات والانتفاضات والتعرض للقمع أكبر بعشرات المرات، ومع ذلك لم يتأخر الكرد عن الثورة يوماً واحداً بل سبقوا الجميع إلى التمرد سنة 2004 فأدانتهم يومها نخب الحزبيات المعارضة. ولهذا السبب أعتبر أن شباب الكرد عهدوا إلي (بدون تكليف) بأن أكون الممثل المقتدر لكل السوريين بكل مكوِّناتهم لا لقومي فقط. وتلكم مسؤولية تاريخية سينهض بها الكرد في سوريا المستقبل: حماية المجتمع السوري من إزاحة أي مكوِّن لصالح مكوِّن آخر.

÷ البعض يعتبر حضور الأكراد في الثورة السورية حضوراً رمزياً، هل توافق؟ وكيف تفسر؟

} الحضور الكردي في الثورة حضور طبيعي ويعكس واقعاً جغرافياً وسياسياً. ولئن رأى البعض دلالة في كون المناطق الكردية لمّا تضرب بالطيران، فذلك يدل على أنهم يفتقرون إلى الرؤية السياسية. لقد شارك الكرد من خارج الأحزاب بقوة شبابية وحيوية سياسية في الثورة عند بدايتها وفي أسبوعها الأول بحجم لم تصل إلى مستوياته غالبية المناطق السورية (ريف الحسكة العربي، والرقة وأريافها، وحلب وأريافها، وطرطوس وأريافها، والسويداء وأريافها). وسبقت عامودا والقامشلي والدرباسية وسري كانية مدناً عربية كثيرة وكبيرة في التظاهر والمطالبة بإسقاط النظام وتحطيم تماثيل الأسد. واستطاعت القوة الشبابية أن تفرض أجندتها على الحركة الحزبية، وان تُدخلها في الثورة. صحيح ليس بالقدرات الكامنة لدى هذه الاحزاب، لكن نسأل أين الاحزاب العربية من الشراكة الفعلية في المظاهرات؟ حتى الإخوان المسلمون لم يعلنوا موقفاً مؤيداً للثورة إلا بعد الرخصة التركية. وكذلك إعلان دمشق وحزب الشعب وباقي أحزاب التجمع وغيره. ولليوم ما زالت الأحزاب العربية قاصرة عن إنزال تظاهرة واحدة. ويجري نقد الكرد في اتجاهين: اتجاه عاجز يريد للكرد أن يحضروا بقوة ليُتّهموا بالانفصال، واتجاه لئيم فتنوي يجهّز من الآن التهم الرخيصة للكرد بأنهم كأقلية مثلهم مثل باقي الأقليات يتبعون السلطة.

حين تشكّل المجلس الوطني السوري استُبعدت المنظومات الكردية بضغط من الأتراك واستُعيض عنها بسقط متاع من كرد المهاجر ممن رضي بأن يكون ملحقاً بالرغبات التركية في مفرخة هذا المجلس. لن يقبل الكرد بعد هذه الثورة وحضورهم فيها من ضفاف دجلة الى ساحات ركن الدين وجامعة حلب بأن يبقوا أيتاماً على مائدة اللئام يستجدون أحزابهم وأحزابهم تستجدي الأحزاب العربية والأحزاب العربية تستجدي وكلاءها عبر الحدود. لا خوف على الكردي ولا على الموقف الكردي في الثورة ومن الثورة فالثورة هي الخلاص للكرد والعرب معاً.

المثقفون

÷ كيف تفسر الانقسام الكبير بين المثقفين العرب حول الثورة السورية؟

} بداية علينا الاتفاق على أن المثقف نتاج منظومة مجتمعية. ومن المؤسف القول إن هناك إشكالية للمثقف العربي بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ تفتقر مجتمعاتنا الشرقية منذ عبد الرحمن الكواكبي إلى نموذج المثقف المفكر الشجاع الكريم الذي لا يخاف في الحق جور السلطان (سيفه، ماله، ومؤسساته). بعد الكواكبي انقرضت النخب التنويرية (باستثناء سعادة) التي حاولت ان تضرب جدران الاستبداد العربي. ربما لأن الكيانات العربية تشكلت بعوامل خارجية (سايكس بيكو). كيانات مرتجلة خلّفها نظام «التيمار» العثماني .. فالدول العربية التي استُولدت من منظومة الانتداب ومشاريعها الاستعمارية أتت في صيغ حقول استثمار أقرب إلى ذهن رجل «السفاري» منها إلى بنيان فكري نضج في عقل رجال دولة. ويمكننا المجازفة بالقول إننا، عدا التجربة البورقيبية في تونس، نكاد لا نقع على مشروع دولة واحدة حديثة.

قناعتي أن المثقفين العرب يختلفون حول كل شيء. اختلفوا حول الهوية والآخر وفلسطين والعراق والوحدات المرتجلة. ويختلفون اليوم حول الثورات بعامة والثورة السورية بخاصة لأن جسد المثقف العربي تضخم بهرمونات جينية أكثر من اللازم وحدث فيه نوع من العرض أكثر من الطلب. وبالتالي هناك تكالب على اللقمة وتخاصم حولها. ويتم ترويضهم وتدجينهم بالفساد والإفساد. وكأني بهم غدوا شعراء سوق عكاظ تراهم قوافل متناحرة وقبائل متحالفة على فتات موائد الحكام والحكومات. هكذا كانوا في مهرجانات ياسرعرفات. وهكذا صاروا في عهد صدام والمربد والجنادرية والدوحة وسلسلة إقرأ للسيدة سوزان مبارك: بطالة مقنعة في صيغة بائع جهد ثقافي غير عضلي، بروليتاريا رثة بلبوس مثقف. فمن الطبيعي في غبار القوافل هذه أن يضيع المثقف الحقيقي المتواضع الباحث بجدية وبرؤية معرفية.

÷ ألا تعتقد أن لدى الثوار والثورة السورية من الأسباب والمشكلات ما يدفع المثقفين وسواهم إلى الانفضاض عنها؟

} أبداً. إن الثغرات التي حدثت في الثورة السورية هي نتاج هروب المثقفين وتحايلهم عليها وسطوهم غير المبرَّر على اسم الثورة من دون المساهمة فيها، إلا قلّة قليلة (يمكن عدّهم على أصابع اليدين) من المثقفين الذين أعلنوا انضمامهم الى الثورة بروحها الوهّاج. هنا أقصد المثقفين المطوبين بالأسماء. فأنا مقتنع بأن شباب الثورة، الذين أطلقوها وتقدموا الصفوف والتظاهرات، فارتقوا شهداء أو غدوا أسرى المعتقلات بعشرات الآلاف، هم حقاً مثقفو سوريا اليوم. ولهذا أطبقت السلطة عليهم بسرعة وغيبتهم لتفسح المجال للكسح والكسالى ليصبحوا ناطقين باسم الثورة من موقع مصالح السلطة. ومع ذلك استطاعت الثورة خلق جيل ثان لقيادتها وثم جيل ثالث يقودها ويصوغ شعاراتها بعقل نهضوي وشعارات لم تتغير محورها الكرامة والحرية والشراكة المجتمعية في دولة حديثة عصرية بغير مساومة وبغير تردد. هكذا خرجوا بصدورهم العارية من الأحياء الفقيرة ومن خلف الحواسيب النقالة حاملين كاميرات وحناجر تنشر ثقافة الحرية والوحدة الوطنية والتغيير الجذري الشامل.

كما أسلفت انضمت قلّة من المثقفين إلى الثورة. وهم معروفون لا داعي لذكرهم لكنهم وللأسف أصبحوا، بفعل حجم القمع والطغيان، أسرى التخفي. فتُركت الساحة ووسائل الإعلام لكمّ هائل من الذباب على جراح الثورة. ربما كان الخطأ الكبير الذي وقع فيه مثقفو الثورة ونشطاؤها أنهم دخلوا فيما بينهم في صراعات مترفة فانقسموا من حول لجان التنسيق المحلية واتحاد التنسيقيات. ففوتوا على الثورة وحدة لو تحققت لكنا اليوم بألف خير. ثم غدوا رهائن استقطابات عبر الحدود في مهرجان المؤتمرات والمجالس وأسرى سطوة ومفسدة المال الفاسد.

في الشهور الأولى للثورة صاغت مجموعة من شباب التنسيقيات ومثقفيها رؤية سياسية للجان لو أنهم لم يتخلوا عنها لصالح مهزلة المجلس الوطني وحوّلوها إلى رؤية جامعة للثورة بديموقراطية الحوار وصياغة برامجية لاستطاعت أن تتقدم للعالم والشعب السوري برؤية وبرنامج انتقالي ومرحلي وقيادة ميدان تشكل حاضنة ورافعة وطنية وشعبية ومعرفية للمقاومة المسلحة الضائعة اليوم رغم تضحياتها الكبيرة وإنجازاتها الرائعة.

÷ ظلت الثورة في سوريا تثير حولها جدلاّ على مستوى المفاهيم: فهل هي ثورة، أم انتفاضة، أم احتجاجات؟ ولماذا؟

} الثورة السورية بدأت انتفاضة «درعاوية» ثم غدت تمرّداً ثم صارت ثورة بالمعنى العام بالانتشار. لكن الثورة حتى تصبح ثورة يلزمها برنامج ورؤية سياسية وإنجازات ميدانية. ليست كل انتفاضة، بعامة، ثورة منجزة. فالثورة انقلاب في النظام بالتحول من حال الى حال. وليس المصطلح هو المهم. لقد ثار الشعب السوري بكل شرائحه وطوائفه ومكوِّناته من أجل شعارات موحدة تتركّز على الحرية والكرامة والمواطنة الحقة. وهذا بحد ذاته انقلاب في مفاهيم الحراك السياسي السوري المعارض على مدى ستين سنة. إنه وعي جديد، وعي نهضوي عصري، رُفع بنبل وبتدرج ونضج سياسي نما في مواجهة رصاص جيش (الوطن)، بمفاهيم عصرية تعمّمت لدى جيل شاب سوري جديد أطلق أنبل ثورة في التاريخ البشري لا السوري أو العربي فحسب. في جغرافيا الشرق والغرب وأميركا اللاتينية حدثت انتفاضات وتمردات وثورات كانت جلّها عقائدية ذات مراكز حزبية او استقطابات دولية لا تشبهها الثورة السورية في شيء. فهي ثورة شعبية بمفاهيم بسيطة تدرجت من «الشعب يريد إسقاط المحافظ» في الصباح إلى «الموت ولا المذلة» و«الشعب يريد اسقاط النظام» و«اللي بيقتل شعبه خائن» في المساء، فأطلق سميح شقير ملحمة يا حيف ..ظهرك للأعادي، وعلي هاجم بالسيف!

÷ منذ بداية الثورة طغت صورتك كمعارض على صورتك كفنان تشكيلي. أنت أيضاً رحت تتنصل من صورة الفنان التشكيلي، إلى هذا الحد تتعارض صورة الفنان التشكيلي مع الثائر والمعارض؟

} صحيح. ربما كان للإعلام دوره في إشاعة صورة ما أو فكرة ما عن شخص في لحظة هي الأكثر إثارة. كنا نحن، مثقفي المهجر، ولا أقول المنافي لأنها مسألة شائكة، قد بلغ بنا العطش حتى جفت منا العروق. بعضنا، من أمثالي، آثر السكينة التطهرية رافضاً أي تواصل ببلد تحكمه سلطة تزداد سوءاً وفساداً، وآثر بعض آخر التصالح في ظل هدنة مفسدة تستخدم المهجري فتروّضه من جهة وتخصي به البذور الباقية للتمرد في المقيم. قلت كنا تربة عطشى وحين أتت الثورة استقبلناها كفلاح يركض باتجاه غيمة عابرة. ولهذا حاول كل منا أن يكون في هذه اللحظة التاريخية في الموقع الذي يراه إلى جانب شعبه حسب درجة الوفاء لعمره وتاريخه وقناعاته التي لم يخنها. فكان الإعلام وسيلة تواصل واتصال وإعادة تعريف.

وربما فاتك أن جيل فناني السبعينيات السوري تميز بفنانين معارضين ذوي رؤية سياسية لم تهادن سلطة الأسد الأب. ولأول مرة دخل معترك السياسة فنانون معروفون (قلة) لهم مكانهم الإبداعي المؤسّس في الحركة التشكيلية التي تطورت وتائرها بفعل إبداعاتهم وتميزت أيضاً بفعل مواقفهم. وهم معروفون في سوريا ولدى كل متتبع للفن السوري في تلك المرحلة. وبتواضع كان بشار العيسى أحد هذه الرموز، لم تنفصل عنده السياسة عن الفن كقيمة ومعايير. فالإبداع، فضلاً عن أنه عملية معرفية، هو أيضاً موقف اخلاقي ومشاركة حية في البناء المعرفي والوعي الانساني وإن اختلفت الموازين الكيميائية أو المواشير الفيزيائية, شخصياً لم أشعر فيّ يوماً بالتناقض بين السياسي والثقافي. بل إن أكثر ما كنت استهجنه لدى زملائي هو تلك البلادة الجبانة التي كانوا يبرِّرون بها استكانتهم بحجة الفن أو الإبداع.

إن الشرائع كلها، الدينية منها والوضعية، دفعت الإنسان إلى الأمانة لقيم تحصن المجتمعات وتحميها. ونهض بهذا الدور الفلاسفة والأنبياء والمبدعون، لدرجة أن الصلب وشرب السم أصبحا واجباً وقيمة جمالية تعلو على الخلاص بالجلد أو التراجع عن الفكرة. «اقرأ» هذا الأمر الإلهي لم يكن إلا بداية لفعل «اجهر»…. لأن انسانية الانسان تتمسخ اذا لم تتوج بنتيجة الخلاص في مجمرة مقاومة الفساد. وإلا فالطوفان. فالفنان المبدع كما الشاعر هو مشرّع. لذا يترصد الاستبداد القابضين على الجمرة، الفكرة المبدعة، أكثر بكثير مما يخشى الكلمة الغاضبة اللحظية. ولنا في تجارب معاصرة ما يثبت أن من عجزت السجون والمنافي والمعتقلات عن ترويضه تكفلت بتدجينه مشتريات ما، أو وظيفة مترفة.

أما فكرة التنصل التي ساورتك فقد تكون نتاج فهم ملتبس أو تعبير غير موفق مني لتبيان أنه، عند من تحترق أكبادهم كل لحظة في مشهدية الدم السوري والأطفال المذبوحين والرقاب المجزوزة والحناجر المقتلعة والحواضر المدمرة وهول المأساة الوطنية التي يصح فيها القول «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»، يغدو الحديث في اللوحة أو القصيدة والتميز البارد كجثة في ثلاجة نوعاً من مضغة لجثة يعاد تسخينها على مجمرة قلوب الأمهات. أعترف بعجزي عن الذهاب إلى اللوحة وحلقي مملوء بالدم والتراب. أنا أعجز ما أكون أمام هذه المشهدية الطوفانية الفائقة الغدر الإنساني في فاحشة الفساد السياسي من حولي هنا وهناك وهنالك. وإني لمقتنع بأن جيلاً من المبدعين السوريين يعيشون المشهد من داخله ستكون لهم إبداعات رائعة فنية وشعرية وروائية ومسرحية بعد النضوج وليس في لحظة الصخب القائمة، على أهمية وجمالية ما يصنعون. لكن ريثما يتم ذلك تبقى الساحة الابداعية للافتات كفرنبل وعامودا وبنّش.

وحتى لا نقع في التعميم هناك مثقفون وفنانون يقفون مع السلطة مستمرئين القتل بقيم وأخلاق الحرس الجمهوري والأمن الجوي. وفي المعارضة هناك منافقون يغرقون في فساد الشهوة بأخلاق الرعاع وقيم المهربين المنافية لجمالية التشريع وقيمه المتمثلة في حقوق الإنسان ومجده وحياته المقدسة. لكن الفنان الصادق المبدع الحقيقي لا يمكن أبداً أن يصبح معارضاً مزيفاً ولا موالياً دجالاً. قد يستتر بالصمت، لكنه لا يغرق في الفتنة ولا في الفساد ولا في الدم ولا في الخيانة. فالفنان الحقيقي مثله مثل الثائر العادي، ومثل المثقف النبيل الذي وقف مع الثورة على رؤوس الأشهاد، ومثل الأبواب المفتوحة لإيواء الهاربين، ومثل صرخات المغتصبات ودموع الأمهات، هو جمرة تلمع في حقيقة التشريع الأخلاقي في قيمة الإنسان الحر. إنه كالأنبياء والفلاسفة يتجرّعون السّمّ ويصعدون الصليب هامسين: اغفر لهم فهم حمقى.

(باريس)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى