صفحات الحوار

بشار العيسى: خنقوا النقد السوري.. حتى التشكيلي

 

حاوره: علي جازو

لوحات مجرّدة. غنىً لوني وتراتب أشبه بموسيقى بصرية. لوحات أخرى أقرب إلى مشاهد ريفية بعيدة لنساء بتكوينات محنّطة داخل أزياء تلتفّ حولها، تبدون كما لو أنّهن مسافرات أو متروكات على الطريق، يتحوّلن إلى حجارة أو تلال. الذاكرة – الجغرافيا الرحبة والشكل والمخيلة، تتناغم في وحدة لونية حارّة. تلك بعض سمات أعمال بشار العيسى.

في هذا الحوار مع “المدن”، يقدّم الفنان والكاتب المعارض، رؤية حادة عن واقع الثورة السورية. بعد 35 سنة قضاها ممنوعاً من العودة إلى سوريا، ينظر بشار العيسى (كرديّ سوريّ) إلى سوريا بعين نزيهة ورصيد أخلاقي يحميان الثوار من السقوط في بازار المال السياسي. واحدٌ من أهم التشكيليين السوريين خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم، ينفي البُعد القومي والديني عن الفنّ، ليعيده إلى تجذير علاقة المبدع مع المكان ومدى صدق التفاعل وعمق الرؤية البصرية.

–                    تتمزق سوريا بين أكثر من هوية سياسية. حلم السنة الأولى من الثورة تحوّل إلى كابوس طوال السنتين الماضيتين. كيف يمكن برأيك وضع حدّ لهذه المأساة؟

منذ أربعين سنة لا توجد في سوريا دولة، بل سلطة تغوّلت. سوريا، لا تتمزق بين هويات سياسية، بل تؤسَر بين محميّات إقليمية غدت مناطقية لأكثر من سبب: قامت استراتيجية السلطة، بإدارة قاسم سليماني، على اعتقال جلّ نشطاء الجيل الأول للثورة الذين أطلقوها بعقل نهضوي وحيوية سلمية يندر مثالها، مازال أكثر من 150 ألفاً من النشطاء وقيادات الميدان، مجهولي المصير، فضلاً عن عشرات الآلاف من الشهداء وملايين المهجرين، غدوا ونحن معهم أسرى جريمة دولية مستمرة بتعاون وثيق بين همجية السلطة والمال السياسي.

لقد تمت عملية قرصنة وسطو على الثورة في حرب فاقت كلّ تصور، عمليات حقن وزرع مجاميع مسلّحة، بعضها أخرجت من سجون الأسد وغيرها استورد تحت عباءات مختلفة مدجّجة بالمال والسلاح لخنق ساحات التظاهر. تمارس النهب والسطو وقطع الطرق لإشاعة الفوضى وفقدان الأمان، كتائب مسلحة تستكمل التدمير العمراني الذي تقوم به السلطة لترييف المقاومة وتشتيتها.

فات زمن وضع حدّ لما آل إليه البلد، إلا بالذهاب في الحرب القائمة إلى نهاياتها لا بد من تدمير سلطة (التحالف الفاشيّ النازيّ)، بجميع بنياتها لاستئصال ثقافتها وسيرورة تشكلها من الذاكرة الشعبية ومن التاريخ. لا بد من إجراء محاكمات ستكون أوسع وأشمل وأشد عمقاً فكرياً من نورنبرغ. وإلا سيندم العالم كله على آفة ستدمر المنطقة.

–                     قدّم السوريون تضحيات عظيمة، لكن النظام لم يسقط! هل يعود ذلك إلى قوة السلاح والمال؟ هل لأن الثورة تحوّلت إلى حرب أهلية، ولأن أمراء الحرب باتوا السادة الفعليين باسم المعارضة؟

دعنا ندقق أكثر، لقد انتصرت ثورة السوريين بكل المعايير: الشمولية، العمق الشعبي، حجم التضحيات، واقعية الشعارات والرؤى، لكن النظام لم يسقط. بقي النظام في الدبابة والطائرة والصاروخ والمعتقل يتجوّل بالساطور والجرافات والشبيحة يدمر ويخلخل البنية السكانية وديموغرافيا المكان، يهجّر البشر، يدمّر البنى الاقتصادية ويهرّب الطبقة الوسطى على هشاشتها، والخبرة الحرفية وبالتالي السوق الوطنية إلى خارج البلاد أو الى محميته الجغرافية.

وفي المقابل تكفلت المعارضة بتغييب الداخل الميداني لتستأثر بالفساد بصفة البديل المسخ المأجور، تفتقر للرؤية السياسية الواضحة كبديل مقنع، تنشطت بالاحتيال. حدث هذا في لحظة انفعالية بتواطؤ تشارك فيه (الأخوان المسلمون) مع (حزب الشعب)، و(إعلان دمشق) مع (هيئة التنسيق مع الكتلة الكردية)، مع من سُمُّوا (كوادر المغتربات)! لقد أثبت الجميع أنهم بيادق في لعبة شيطانية اسمها مفخَخَة المال السياسي.

–                    تتكاثر منظمات المجتمع المدني السوري. كيف ترى أداءها، ولمَ نجد التمزق يعترض عملها؟

هذه الكثرة البذيئة اليوم، لما تسمّى منظمات المجتمع المدني، هي المواليد المسخ لتلك الثقافة الهرمة التي ترافقت وعملية توريث بشار الأسد عرش أبيه بحجّة مساعدة الرئيس الشاب لإنجاز التغيير والعصرية. مثلما يقوم اليوم بتمويل أنشطتهم رجال أعمال ومفاتيح سفارات دولية ليسوا بغرباء على المال السياسي والاستخباري لصيد واصطياد شباب مهجّر مشرَّد، يتم تجميعه في مختبرات (لقاءات) إعادة تدوير.

تكمّل هذه المجاميع، عملية نقل رديفة لتهجير البنية الاقتصادية والتدمير الاجتماعي لحاضنة الثورة والبلد، لقد حلت غازي عنتاب مثلا محلّ حلب. مدينة جديدة أشبه بمدن الملح التي رصدها عبد الرحمن منيف، كما تتم عملية نقل محترفات مهنية من البويجي الى الصناعي والحرفي، تتم عملية نقل شباب وكوادر سورية إلى مؤتمرات واجتماعات أكل البطن لحين الاستثمار، وعلى هامش هذه البراكات المستعجلة يتحرك جيش من المهربين وباعة المتعة ووكالات المجتمع المدني لبلد يضيّع بهزيمة المجتمع الحاضن.

لا مدرسة نقدية، لكنّ سورييّن مجهولين سيكون لهم شأن

–                     من هو الفنان السوري الذي لفتت أعماله انتباهك، وهل ترى تواصلاً وتفاعلاً بين جيل الروّاد، وجيلكم، والأجيال اللاحقة؟ أم أن هناك قطيعة؟

فنانون كثر غمرهم النسيان بالتقادم الزمني، وهؤلاء ممّن كنا نعمل معاً لإرساء قيم جديدة في الفن وبنيات بدائية لمحترف يتكامل، ولا أقول يتشابه. أحسّ بتجارب جديدة تظهر هنا وهناك، تغيب وتظهر. لأكثر من سبب لا تحضرني هنا الأسماء، لأن الغياب (35 سنة) عن البلد فيزيائياً وبالرؤية يحجب الذاكرة وانتقائية الإعلام المزيف. لكني متيقن بأن ما بدأناه ما زال من هو وفيّ له بين الفنانين الشباب، والكرد خصوصاً حافظوا على براءة الوفاء للبصرية المكانية، وهذا لا يكون بالفولكلور، بل بالرصد الضوئي، اللوني، المكاني، لتشكل ثقافة بصرية، فاللوحة صياغة بصرية تتدرب وتتمرن لتحضر بخصوصية الغنى.

–                    لا نجد مراجع نقدية جيدة عن التشكيل السوري. أليس من الضرورة وجود جهة تتولى هذا الأمر؟

في السبعينات، وعلى هامش نقابة الفنون الجميلة، حدثت محاولات جدية، سرعان ما تم السطو عليها وخنقها في المهد، لأن النقد هو أُساس الاستقلال عن السلطة، وما زال الصحافي الفلسطيني خليل صفية، الراحل بداية الثمانينات، الأفضل والأكثر تلمّساً لقيم التشكيل السوري.

–                     هل تجد دوراً للتشكيل الكردي السوري في فهم طبيعة المنطقة الكردية؟

لا يوجد تشكيل كردي، ولا تشكيل عربي. هناك تجارب تشكيلية لفنانين كرد وعرب ينتمون إلى ذاكرة بصرية بمؤثرات المكان والمحيط، وهي تستند إلى خبرات تتراكم بأكثر من فعل ودراية، بعضها مشهديات مدينية خارجة من حيز المرسم وحدوده البصرية، وبعضها ريفي، خلاصات البصرية جغرافيا تستند إلى خط الأفق ومداه. الفن حالة بصرية تغتنى بالتفاعل مع المحيط والذات، وهو أبداً ليس تقنيات شكلية فقط، فالرسم الصناعي مثلاً أكثر التقنيات دقة غير تشكيلية.

مثل باقي المستويات الثقافية والأخلاقية السورية، تأثر التشكيل بالفورة المالية ونوع السلطة العربية السائدة التي طمحت أن تنتج ثقافتها المدجنة بالفساد والمحسوبيات عبر الترويج للعصرنة التي تليق بالرئيس الشاب، فعلى هامش تغييب الدولة لصالح السلطة مع غواية الشهرة والمال قامت بعض دور العرض مثل غاليري “أيام” أو “آرت هاوس” بعمليات تقزيم وإفساد للذائقة التشكيلية، فناناً ومتلقيأ بثقافة البيع السهل والعالمية، استكملت تجارة تبييض الأموال. غدا مالك الصالات كأي مسؤول أمني مرجعية تفسيخ للثقافة البصرية وجاراها نقدٌ مزيف لنقاد بائعة بالمفرق قاموا ببناء مستعمرات موز في صحراء السلطة. غابت اللوحة المبدعة، وحضرت عنها بضاعة مهربة مبهرجة.

حدسي يقول إن التشكيل السوري بعد الثورة يحقق إنجازاً ما زال ينضج على أيدي شباب الثورة المجهولين، وسيكون لهؤلاء شأن.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى