بشعون، قذرون، أشرار
يوسف بزي
قبل نحو شهر، قررنا أن تكون طرابلس هي وجهتنا لقضاء عطلة نهار الأحد، ان نصل باكراً لتناول الفطور في أحد أفضل بيوت الحلويات العربية في لبنان، ان ننطلق بعد ذلك نحو “المينا” وكورنيشها، ونتنزه على رصيفه الرحب، نمر بمحاذاة قوارب الصيادين الكثيرة والعبّارات السياحية التي تروح وتجيء بين الجزر والشاطئ، وان نتنبه لهذا الهدوء المطمئن الذي يميز هذه الناحية من المدينة، ونلحظ كيف ان الواجهة البحرية لم تستول عليها بعد البنايات الشاهقة والأبراج المتعالية كما حدث في بيروت. لم تزل المينا حتى الآن مدينة بحرية متواضعة، متوسطية، توحي بالأنس والحميمية: باعة الصدف البحري، والطيور والنخل وأشجار الليمون وباعة المرطبات والصيادون، والفوج السياحي النازل من الباص ومدخنو النارجيلة والمتريضون القليلون والهواء البحري الربيعي ورائحة القهوة الطازجة والجبل البعيد المكلل بالثلج.. صباح المينا الرائق.
كان علينا أيضاً ان ندخل الأحياء القديمة للمينا، بحاراتها الضيقة، التي يكمن نصف جمالها بعتقها، والنصف الآخر بانسجام سكانها مع مكانهم وسلاسة تدبير عيشهم المتواضع، حيث الفقر والاناقة والنظافة معاًَ. ومبتدأ تلك الأحياء سوق السمك المبهج بثماره وخيراته واللمعان الفضي الكثيف والوضاء للأسماك المطروحة على الطاولات، وعلى جنبات السوق ينتشر الصيادون إذ يقتعدون مصلحين شباكهم او ليستريحوا من عناء أعمال الفجر.
نتوغل إلى داخل المينا أكثر، حيث المقاهي الشعبية بعطورها وروائحها النفاذة والمغرية: الشاي، القهوة، الزهورات، النارجيلة، الفحم المحترق، خشب الكراسي ورخام الطاولات والزبائن التقليديون أهل المحلة، الذين نتخيل انهم جالسون هنا منذ مئة سنة. وفي تلك الزواريب، حيث البيوت والجدران والأحجار والقناطر والنوافذ نستطيع أن ننسبها إلى أزمان سحيقة، نجد تلك الأفران الصغيرة والكثيرة مباشرة عند حافة الطريق الضيقة بنارها وعجينها وطحينها وعرق عمالها، ومناقيش الزعتر والجبنة وخبزها الذهبي المحمول بالأيدي ويوزع للتو على دكاكين شوي اللحم ودكاكين الفول وبجوارها دكاكين الخضار والسمك والحلويات. حارات كثيرة وفي كل واحدة منها المشهد نفسه النابض بالحياة والموحي بثراء العيش والرزق، رغم غياب أي مظهر أو سبب للغنى والثروة عند أهلها.
ننطلق الى شارع عزمي، قلب طرابلس “الحديث” (ما بعد العهد العثماني) شارع النبض الاقتصادي وصالات السينما والمحال التجارية والمصارف والشركات والمؤسسات. شارع يوحي لنا تارة اننا في مدينة سورية الطابع، وطوراً يذكرنا بملامح وسط بيروت قبل العام 1975، لكنه يذكرنا على أي حال بما فقدته بيروت في عمرانها. فهنا المدينة توحي باستمرارية الزمن وتعاقبه بلا انقطاع أو محو. وهنا يبدو “وسطاً” حقيقياً، أي عقدة وصل وربط وتوزع بين أنحاء المدينة وحراك سكانها ومقصد الآتين اليها من خارجها، ومكاناً لتصريف المصالح وتشابك الطبقات الاجتماعية وتلاقيها.
نذهب إلى ساحة التل ومنشيتها ومرافقها وواجهاتها العمرانية، حيث الزمن العثماني والزمن الانتدابي والزمن الاستقلالي في تجاور يوحي بالرسوخ التاريخي لسيرة المدينة، التي كانت ذات يوم مملكة صليبية ثم مدينة مملوكية مزدهرة، ثم عاصمة ولاية عثمانية واسعة قبل أن تخنقها “حدود” الاستقلال اللبناني، وقبل ان تحاصرها ضغينة “البعث” السوري التي فتكت بها طوال 36 عاماً.
من الساحة إلى الأسواق الشعبية شديدة الازدحام. أسواق تشبه تلك الموجودة في معظم المدن الإسلامية والعربية العريقة: دمشق، اسطنبول، بغداد، القاهرة، تونس.. فائضة بكل شيء: البضائع، الروائح، البشر، الأصوات، الألوان. متعة لا توصف للحواس، للذاكرة، للشعور بالضياع والاندغام بالمكان وأشيائه وناسه. شعور بالحشر والضيق يليه فجأة اذ تدخل باحة المسجد المنصوري مثلاً بالرحابة والصفاء. أو تدخل أحد الخانات الواسعة الذي بات مصنعاً للصابون المعطر، أو تسير في سوق الخياطين الذي يشبه المتحف الفولكلوري.
السحر هنا في تجاور الذهب مع لحم الدجاج والأجبان والأقمشة والتوابل والأدوات المنزلية وباقات النعناع الفوّاحة والحلويات وماء الزهر والذبائح والبخور والمياه المبتذلة وسط الأزقة، وزوايا الصوفيين بأبوابها الواطئة. سحر مدينة فقيرة، مفعمة بالحياة.
لكن، في طرابلس الآن، مسلحون، “بشعون، قذرون، أشرار” (بالإذن من عنوان فيلم للإيطالي إيتوري سكولا) يخربون ويدمرون ويقتلون، وخلفهم سياسيون فاسدون وسيئون وأنانيون. طائفيون ومذهبيون وطلاب فتنة واتباع ظلام. سياسيون ركيكون وتافهون يحرضون الجهلة والمرتزقة والقتلة.
في طرابلس الآن، وبسبب حفنة مسلحين لا يمثلون واحداً بالألف من سكان المدينة لا فعلاً ولا رأياً، يبتهج حلف 8 آذار الذي يسعى الى تثبيت معادلة: “لنا سلاحنا ولكم سلاحكم فلا تتحدثوا عن حصرية السلاح بالدولة”.
وفي طرابلس الآن، يحاولون تصنيع “البعبع” الخيالي الذي يستميت الجنرال عون وأشباهه من أجل ولادته : “السَّنة هم كلهم إرهابيون سلفيون”، وفي طرابلس الآن يحاول النظام السوري تصدير معركة حمص إلى باب التبانة وجبل محسن وفق معادلة : “إما أنا أو الخراب العميم”.
في طرابلس التي دمرها النظام السوري مرتين، وعاث فيها تنكيلاً مدة 36 عاماً، ينكشف عجز الدولة على أن تكون دولة، وتنكشف أجهزة أمنية متوزعة الولاءات إلا للدولة، وتنكشف هشاشة الاجتماع اللبناني ازاء عصبيات تزداد تباعداً وخوفاً واستنفاراً واستعداداً للمقاتلة، منذ ان ترجم حزب الله “انتصاره الالهي” ببيروت في 7 أيار 2008، وهي الترجمة التي عليها يتأسس اليوم من طرابلس الى بعلبك الى زواريب حي السلم والشياح إلى صور.. سبب” الفتنة” القاتلة.
في طرابلس تخسر 14 آذار (الفكرة)، اذ أخيراً يجد حزب الله صنوه وشبيهه: ميليشيا مسلحة (نصفها بتسليح وتمويل من الحزب والنصف الآخر بدعم وتمويل من زعامات محلية بائسة وموتورة). “7 أيار” متجددة بانتظار لبنان اليوم وغداً. وما رأيناه وعايشناه في رحلتنا قبل شهر الى طرابلس قد يصير وحيداً في الذاكرة، آفلاً ومبدداً على أيدي أولئك البشعون القذرون الأشرار.
المستقبل