بصمات تركية!
سمير صالحة
قد يكون أكثر ما أغضب القيادة السورية في دمشق ودفعها للحديث عن أصابع وبصمات تركية في تفجير مبنى الأمن القومي السوري، هو ربطها بين شريط التحركات والأحداث التي رتبتها على طريقتها قبل الانفجار وبعده، خصوصا منها التهديدات التي أطلقها قائد الأركان التركية بعد حادثة إسقاط الطائرة الحربية، بأن أنقرة تحتفظ لنفسها بحق الرد في المكان والزمان اللذين تختارهما، ورصد السوريين لتحركات ومواقف رجب طيب أردوغان وأعوانه، والعمليات الواسعة التي نفذها الجيش السوري الحر التي رافقها المزيد من الانشقاقات في صفوف كبار ضباط المؤسسة العسكرية السورية.
النظام في سوريا بنى استنتاجاته على ما يبدو أمام تساؤل: ما هذا الأمر الطارئ والعاجل الذي دفع أردوغان للاختلاء برئيس جهاز مخابراته هاقان فيدان لمدة نصف ساعة في مطار أنقرة، يوم الهجوم بالذات وهو يستعد للتوجه إلى موسكو، ثم صدور قرار اصطحاب الأخير معه في زيارة خاطفة، كان موضوع الأزمة السورية وتفاعلاتها مركز الثقل فيها؟ وما هذه الصدفة التي فاجأت أردوغان والرئيس الروسي بوتين اللذين تتضارب مواقفهما حيال النظام السوري، حين نقل إليهما نبأ الانفجار الذي عزز دون شك فرص رئيس الوزراء التركي في الدفاع عن وجهة نظره حول تدهور الأوضاع ووصولها إلى خط اللاعودة في سوريا؟.
التمسك بوجود دور تركي في عملية من هذا النوع كما يردد أقرب أعوان الرئيس السوري وأصحاب هذه النظرية، سببه دخول تركيا المباشر والعلني على خط الأزمة السورية، هذا الدخول الذي طالبت به أصوات وفصائل كثيرة في المعارضة السورية، وكان تحركا لا مفر منه في نهاية الأمر للرد على كثير من الآراء والتحليلات التي كانت تسخر من الموقف التركي، الذي يتكلم أكثر مما يفعل، والذي يتلقى الصفعات واللكمات السورية لكنه يكتفي بإدارة الخد استعدادا لتلقي المزيد منها.
ورغم أن أردوغان رفض كل الاتهامات السورية بوجود أي دور لتركيا في هذا الهجوم، فأنقرة لها شواغل وهموم أخرى تتابعها، وهي لا تلجأ إلى عمليات من هذا النوع لتصفية حساباتها مع أحد كما قال، فإن الإعلام السوري أو المقرب منه لم يتراجع عن اتهاماته لتركيا ودورها المباشر في التخطيط والتحضير والتنفيذ.
التحركات الواسعة لأنصار الجيش الحر والتصعيد الكبير في المواجهة والرد والإصرار على مواصلة مشروع إسقاط النظام، الذي كان انفجار دمشق مفصلا حيويا فيه هو ربما ما أغضب القيادة السورية أكثر فأكثر وزاد من قناعتها بدخول تركي قوي على الخط يساهم في الإعداد لمرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، وهي رسالة تعني في الوقت نفسه المراهنين على حماية النظام وضرورة بقائه.
ما أغضب دمشق ربما هو اكتشافها أن عملية استهداف مقر إعداد السياسات الأمنية، الذي يقود ويدير اللعبة بمنطق الأمن السياسي، لا علاقة لها بمشروع «قادش المعولمة» كما يحاول أن يوحي النظام، بل هي خطوة كبرى على طريق إقناعه باقتراب ساعة الحسم وضرورة التراجع عن طريقة تعامله مع مطالب الشعب السوري، وأنه لا انتظار أو رهان بعد الآن على قرارات يتخذها مجلس الأمن الدولي، والمضي في لعبة الكر والفر مع روسيا والصين حتى النهاية، وهذا ما رددته أنقرة على مسامع القيادة السورية عشية اندلاع الأحداث قبل أكثر من عام ونصف.
عملية دمشق كما اكتشفنا لاحقا كانت وسيلة أيضا للكشف عن أسماء وهويات ونشاطات وإنجازات المستهدفين عبر أكثر من ملف أمني وسياسي إقليمي ودولي خطير، تقدمه محاولة العبث بتركيبة المنطقة وهويتها العرقية والدينية والمذهبية.
كل هذا الكم من المعلومات والتسريبات حول الشخصيات المستهدفة في تفجير مبنى الأمن القومي السوري والمهام التي أوكلت إليها والملفات الحساسة التي حاولت التلاعب بها يعكس حجم الضربة التي تلقاها النظام.
أصوات دمشقية تردد حديثها عن المسؤولية المباشرة لتركيا ليس فقط في استهداف أقرب أعوان الرئيس السوري، بل بسبب إسقاط مقولة النظام المحصن وغير القابل للاختراق. هذه الرسالة التي تلقاها النظام وكان موجزها تذكير المعارضة ومن يدعمها في الخارج أن بدائلها كثيرة ومتنوعة وأن المفاجآت ستتلاحق، وأن لا انتظار بعد الآن لقرار أممي وجهود إضافية تبذل من دون نتائج.
المشهد بعد عملية تفجير مقر الأمن القومي السوري يقول إن النظام يريد تحميل تركيا وغيرها من الدول والعواصم العربية مسؤولية فشله في التصدي لمعارضة باتت – رغم كل ضعفها اللوجستي – تملك القدرة على الرد والاستمرار في التحدي والمواجهة وتوسيع رقعة تمددها وسيطرتها على كثير من المناطق والمواقع والمرافق الرسمية.
الغضبة السورية الرسمية سببها أن عملية مبنى الأمن القومي السوري لم تستهدف عمق النظام وحده بل كل أعوانه وشركائه والواقفين إلى جانبه والذين يعرفون أنهم يتحملون المسؤولية الكاملة عن حماية نظام يدمر المدن والممتلكات ويتحمل المسؤولية الكاملة في استمرار إراقة الدماء. التفجير الأخير رسالة استهدفت ربما قلب النظام في الداخل لكنها استهدفت أيضا روحه المتمددة إلى الخارج.
الاتهامات التي وجهها وزير الإعلام السوري ومصادر أمنية مقربة من قصر الرئاسة إلى أنقرة، لها علاقة مباشرة بإفشال مشروع المواجهة الإقليمية الشاملة والمفتوحة، التي يصر عليها النظام السوري وإبعاد شبح الحرب الأهلية والتقسيم عن سوريا. حجم ردود الفعل التي أطلقها النظام، وسلوك النظام بعد العملية والتطورات المتلاحقة على الأرض يقولان إنها ضربة من العيار الثقيل استهدفت تعهداته والتزاماته أمام الشركاء والحلفاء. فكيف ستتحرك هذه القوى ليس انتقاما لسمعة النظام ومن أجل رفع معنوياته التي تراجعت في الآونة الأخيرة بل من أجل مصالحها وحساباتها التي بنتها وباتت مهددة بالسقوط والاندثار؟
المشهد يكاد يقول إن القيادة السورية التي أعلنت الحرب على الإرهابيين، ولعبة ورقة المعارضة المفككة والمتضاربة المصالح وجدت نفسها اليوم أمام ورطة غير محسوبة بدقة هي أكراد الشمال الذين انقلبوا عليها، خصوصا أنها كانت توزع السلاح والمهام على بعض المقربين إليها هناك، وتعدهم لمهاجمة أهداف في العمق التركي.
النظام في دمشق غاضب جدا بسبب دخول أميركي – إسرائيلي مفاجئ على الخط يذكر بالوضع عشية الحرب على العراق. هل يمتلك حقا هذه الأسلحة الفتاكة والمحرمة التي يجري الحديث عنها؟ هل سيستخدمها كورقة أخيرة يلعب بها قبل الانتحار أم أنه سيبعث بها إلى أقرب حلفائه كما تقول التقارير الغربية؟ أم أنه سيتخلى عن عناده وعن الدول التي تحرضه وتدعمه في تصلبه، وهي التي ستكون أول من يغادر المكان عندما تشعر باقتراب المنازلة الحقيقية؟ تركيا تعود إلى الواجهة بعدما فشلت في إقناع صدام بالتخلي عن عناده، وهي هنا بسبب تردي العلاقات لن تكون وسيطا يحاول أن يقنع دمشق بحجم المأزق وخطورته وربما هذا أيضا بين ما يزعج القيادة السورية ويغضبها.
الذين يتحدثون عن البصمات التركية في التفجير حاولوا أن يبدأوا الحرب الإعلامية والنفسية ضد الأتراك؛ بالترويج لخبر اغتيال فيدان، رئيس جهاز المخابرات، في منزله بإسطنبول رغم معرفتهم أنها كذبة قصيرة لن تستمر سوى دقائق معدودة وصفتها مصادر هذا الجهاز بأنها مضحكة ومضيعة للوقت.
أنقرة التي اتهمها النظام السوري بالمشاركة في هجوم دمشق تعرف أنه لن يتردد في توريط آخرين يتحركون نيابة عنه في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها، لكن النظام يعرف أيضا أن مغامرة بهذا الاتجاه ستكون كافية لدفع أنقرة باتجاه إعلان حرب الدفاع عن النفس المشروعة التي أرجأها أكثر من مرة، طالما أن دمشق حملته مسؤولية المشاركة المباشرة بهذا التفجير.
الشرق الأوسط