بعد الاعتداء على علي فرزات: إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة ووعي العمل الانتحاري
دمشق ـ ‘القدس العربي’ ـ أنور بدر: حين أطلق الفنان علي فرزات (مواليد 1951) على العدد الأخير من مجلته ‘الدومري’ الذي حمل الرقم ‘1+115’ تاريخ 28/7/2003 اسم ‘العدد الانتحاري’، كان يدرك تماما دلالات الفعل الذي يقوم به.
ليس من باب السوداوية التي يمكن أن تودي به للانتحار، هو رسام الكاريكاتير الساخر، ولكن من باب الإصرار على فعل المواجهة، بما تفترضه هذه المواجهة وذلك الإصرار من دفع الضريبة التي يمكن أن تصل في أنظمتنا الشمولية حدّ القتل، وبذلك يكون المضي في هذا الفعل وتلك المواجهة عملية انتحار بالمعنى المادي والفيزيولوجي للكلمة، وليس بالمعنى المجازي أو الرمزي لها.
ولم تكن عملية الخطف التي تعرض لها الفنان فرزات وهو عائد إلى بيته فجر يوم الخميس 25 أب/ أغسطس، في ساحة الأمويين من قبل شبيحة ملثمين أوسعوه ضربا وإيذاء لمفاصل يديه التي يرسم بها، قبل أن يلقوه فاقد الوعي على طريق المطار، إلا التعبير المادي عن رغبة القتل التي شكلت علامة واضحة باتجاه الانتحار الذي أشرنا إليه، حتى لو قصد الجناة مجرد قتله بالمعنى الفني، أي تهشيم أصابعه التي يرسم بها، فالتوقف عن الرسم أقسى بكثير من الانتحار بالنسبة لفنان أصيل يهجس بالفن والثورة في آن معا، ومن اتخذ قرار العملية يدرك ذلك تماما، بغض النظر أن هذه العملية وصلت مبتغاها أم قصّرت دون ذلك، بدليل أن هؤلاء الشبيحة لم يكونوا مسرعين للفرار من جريمتهم البشعة، بل وجدوا الوقت الكافي لسرقة حقيبته الشخصية وما يمكن أن تحويه من أوراق شخصية ورسومات يمكن أن تكون ضمن أولويات وأهداف هذه العملية.
الطريف في الأمر أن علاقة الفنان علي فرزات مع النظام السوري بدأت من زاوية إشكالية تماما، حين جمع بعضا من رسوماته الكاريكاتيرية الممنوعة من النشر، وأقام لها معرضا في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق، صادف أن حضره الرئيس بشار الأسد قبل أن يصل كرسي الرئاسة، وأعجب بهذه الرسوم أو بجرأته مما دفعه لسؤال الفنان: إن كانت هذه الرسوم تُنشر؟ فأوضح له فرزات: أن الرقابة تمنع كل ما ينتقد أو ينتقص من هيبة الدولة. حينها طلب بشار الأسد إليه نشر رسوماته في الصحافة السورية، وأبلغ وزير الإعلام في حينها مهدي دخل الله بذلك.
*****
هكذا أشرعت صحيفة ‘تشرين’ صفحتها الأخيرة لأعمال علي فرزات الإنتقادية، لتبدأ في تلك اللحظة تراجيديا العلاقة بين المثقف والسلطة، تراجيديا تبدأ بالغواية لتنتهي بالمأساة، مأساة استسلام المثقف أو انتحاره، وفي الحالتين تكتب السلطة في لوح القدر الخاص بالمثقف موته الحتمي، ففي التراجيديا لا يملك البطل فكاكا من قدره.
هو القدر الذي قاد فرزات للعمل على حلم عمره عشر سنوات، حسبما يقول، حلم إصدار مجلة ساخرة وناقدة، فكانت صحيفة ‘الدومري’ التي رأت النور في شباط/ فبراير من عام 2001، كأول صحيفة خاصة في سورية منذ انقلاب 8 آذار/ مارس 1963 أي منذ 38 عاما، وما كان لصحيفة ‘الدومري’ أن ترى النور، ولا كان لعلي فرزات أن يستحصل على أول ترخيص لصحيفة خاصة حتى قبل السماح بوجود إعلام خاص وقبل صدور قانون الإعلام رقم 50، أقول ما كان لذلك أن يحدث لولا رضى وموافقة من الرئيس بشار الأسد، لم يتجاهلهما الفنان فرزات أو يتنكر لهما قط. بل يقول في إحدى المقابلات معه: ‘لأن المشروع أساساً كإصدار مجلة ساخرة ـ ناقدة ـ مستقلة، كنت قد طرحته على الدكتور بشار قبل أن يصبح رئيساً منذ عشر سنوات تقريباً أثناء زيارته لمعرض في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق في ذلك الوقت وقد أعجبته الفكرة وشجع عليها حين ذاك’.
وإذا كانت مساهمة علي فرزات في صحيفة ‘تشرين’ رفعت أعداد التوزيع، فإن ‘الدومري’ شكلت في هذا المستوى نقلة نوعية، حيث وزعت من العدد الأول 75000 نسخة، في حين لم يتعدّ توزيع الصحف الرسمية السورية الثلاث في ذلك التاريخ 6000 نسخة فقط، وقد استقر لاحقا توزيع ‘الدومري’ بحدود 60000 نسخة، فشكلت بذلك فضيحة للإعلام الرسمي، وقد نجحت ‘الدومري’ بذلك من خلال استقطاب أسماء مهمة في الإعلام السوري كانت أبواب الصحافة السورية موصدة في وجهها، كما فتحت المجال لأسماء شابة كانت لا تجد فرصة لها في الصحافة السورية، إضافة لطبيعة وأسلوب الكتابة الذي ينوس ما بين السخرية والجرأة، بحيث استقطبت أعدادا متزايدة من القراء، لكن هذه الجرأة جعلتها بذات الوقت هدفا للرقابة والمضايقات من قبل وزارة الإعلام، ومن خلفها الأجهزة الأمنية التي أسرعت بوضع إشارة النهاية لهذه التجربة، بتاريخ 28/7/2003 حيث صدر قرار من رئيس الحكومة بإغلاقها وسحب رخصتها، بما يعنيه ذلك من طرد المثقف من قلعة ‘آلموت’ برمزيتها لجنة السلطة ونعيمها السرمدي، بعد أن اكتشف فرزات عورتها، وسارع لفضح تلك العورات بدل أن يبحث عن ورقة توت لسترها.
شكلت صحيفة ‘تشرين’ مدخل علي فرزات إلى تلك اللعبة، كما ساهمت ‘تشرين’ برسم النهاية لها أيضا، حين شنت هجوما عنيفا على الفنان فرزات، بل خصصت لهجومها ذلك صفحتين بتاريخ ’31/4/2003 و 1/4/2003′ عُبئتا بالقدح والذم والكثير من الاتهامات الشخصية، مستغلة ظرف الحرب الأمريكية على العراق لتنال منه ومن وطنيته أيضا، وقلما يحصل ذلك في الإعلام السوري، وإن حصل فنادرا ما تفرد له تلك المساحة، لكن ذلك يشي بأن القدر الأمني قد كتب نهاية المثقف الذي رفض التدجين، وتلكأ في تقديم فروض الطاعة والشكر، لم يشفع للمثقف أنه كسب دعوى قضائية ضد صحيفة ‘تشرين’، فالسلطة التنفيذية وخلافا لكل النصوص القانونية هي فوق السلطة القضائية، وقد تبرع السيد وزير الإعلام عدنان عمران بإخراج المشهد الدرامي حين أصدر تعميما إلى كافة المطابع يطالبها بعدم طباعة جريدة ‘الدومري’ الخاصة ، إلا بموافقة شخصية منه، وكل عدد جديد يحتاج إلى موافقة جديدة، وطبعاً هذا الأمر هو مخالف للقانون.. ونزولاً عند إلحاح الرغبة بالوصول إلى النهاية، لم يتلكأ السيد الوزير بتاريخ 1472003 من توجيه كتاب جديد يحذر فيه إدارة الصحيفة من طباعتها في غير المطابع الرسمية، لأن ذلك سيؤدي لإغلاقها، وسحب الرخصة أيضا، فلا يحق لأصحاب الصحيفة طباعتها بشكل شخصي، وغير مسموح للمطابع الرسمية أن تطبعها لهم، بما يذكرنا بقول الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له
إياك … إياك أن تبتل بالماء
وفي نهاية ذلك الشهر أغلقت ‘الدومري’ بناء على قرار وزير الإعلام رقم 6061 الصادر في 31/7/2003 بحجة ‘مخالفتها لقانون المطبوعات’.
*****
مع الاعتراف أن ‘الدومري’ ومن ورائها علي فرزات ومجموعة من مثقفي سورية وإعلامييها لم يقبلوا قرار الموت بصمت، فقرروا الانتحار العلني، حين عملوا بدأب على إصدار العدد الأخير من مجلة ‘الدومري’ الذي حمل الرقم ‘1+115’ تاريخ 28/7/2003 والذي عُرف باسم ‘العدد الانتحاري’، ليثبت المثقف أنه عاش التجربة ولو على خشبة المسرح، شيء يشبه احتجاج الممثل على دوره قبل إسدال الستارة في العرض الأخير، إذ لم يعد لديه ما يخسره بعد الآن.
عدد جرى توزيعه باليد وبشكل شخصي على المكتبات والأسواق، مع أن عدة دوريات رسمية وأمنية قامت فورا بمصادرته وجمع ما استطاعوا منه، لكنه ظلّ في ذاكرة البعض وفي مكتبات الآخرين شاهدا على تلك النهاية التي رسمت ووسمت أيضا علاقة المثقف بالسلطة السياسية في سورية عبر العقود الأخيرة من حكم حزب البعث، بدون جبهة تقدمية وطنية أو مع تلك الجبهة، وتحديدا في علاقته بالإعلام.
هل هي مجرد مصادفة أن الفنان علي فرزات حصل في نفس العام على جائزة الأمير كلاوس الهولندية 2003؟ هو الذي حصل قبلها على عدد من الجوائز الدولية والعربية، منها الجائزة الأولى في مهرجان صوفيا الدولي في بلغاريا 1987، والتي ساهمت مع معرضه 1989في معهد العالم العربي في باريس، بوضعه على لائحة أهم فناني الكاريكاتير في العالم، لذلك رأيناه يرفض الاستسلام في معركته الخاسرة مع السلطة، بل حوّل مقر جريدته ‘الدومري’ إلى أول صالة للفن الساخر في سورية، ولاحقا أسس موقعه الإلكتروني الذي تحول إلى منتدى حقيقي للكثير من المثقفين السوريين والعرب، هو الذي حمل هموم الناس وانتقد واقعهم المحبط، وكان قد صرح لصحيفة ‘نيوزويك’ عام 2007 بما يشبه النبوءة: أن ‘النظام السوري يحتاج إلى إصلاحات، وإذا لم يتحرك وبسرعة فالطوفان قادم’!
وعندما جاء الطوفان، أراد الفنان علي فرزات أن يتقدم الجماهير بفنه، محاولاً انتقاد كل ادعاءات الإصلاح التي أطلقها النظام، رافضا الحل العسكري ومواجهة المتظاهرين بالقتل، ولم يقتصر تعبيره على فن الكاريكاتير الذي كان موجعا بالنسبة للنظام لسهولة تلقيه من قبل الناس، بل تحول موقعه على الإنترنت إلى أحد منتديات الثورة في سورية، وكثرت حواراته الصحفية وآراؤه الإنتقادية، هو الذي كان يعتبر أن ‘القمع ـ الخطابات ـ الكرسي’ تشكل الهرم السياسي للسلطة في مجتمعاتنا، حيث ‘زرع التاريخ الكبير للقمع في هذه المنطقة شرطيا في رأس كل مواطن، لكنني قررت أن أقتل هذا الشرطي في رأسي وأرسم’. نجده لا يتلكأ في التعليق على ادعاءات الإصلاح بقوله: أعتقد أن فاقد الشيء لا يعطيه، مضيفا ‘نحن منذ خمسين عاماً نعيش في ظل الشعارات التي لم يتحقق منها شيء ويغطونها بالديكورات القومية’.
كما عبر في لقاء على ‘العربية’ عن توازن القوة بين المتظاهرين والسلطة بقوله أن السوريين ‘ كسروا حاجز الخوف ولم يعد أمامهم ما يخشونه، وان الفرصة أمام النظام ضئيلة للخروج من المأزق’.
وها هو الإصلاح الذي يتحدث عنه النظام يأخذ شكل الشبيحة الذين يترصدون بالمثقف والفنان لتهشيم ما يملك من أقلام وأدوات الرسم، ها هو الإصلاح الذي يحاول اغتيال أصابع الفنان وسرقة إبداعه، ومن قبل اغتيل الفنان ناجي العلي، وحورب الكواكبي قبلهم وأغلقت كل مشاريعه الصحفية، وكان الشبيحة في تلك الأزمنة أيضا، فلكل زمان شبيحته، دون أن ينجحوا في إلغاء النزوع الإنساني باتجاه الحرية، إنها المعركة الأزلية المستمرة بين المثقف والسلطة، سلطة تفرز شبيحتها، ومثقف يتسلح بإيمانه العميق بالحرية وبالإنسان، وهو ما عبر عنه فرزات في احد حواراته قائلاً ‘الطبيعة الإنسانية ستنتقم لنفسها، لا أعرف بأي طريقة، ولا بأي شروط! لكني متأكد من ذلك’.
القدس العربي