بعد العدّ للعشرة/ عزيز تبسي *
لا يمكن استرداد مَن رمت بنفسها من الطابق الرابع فوق الإسفلت الخشن. الأرض ليست فراشاً من قطن مندوف، أو أذرع من أكداس دهرية لإبر الصنوبر الجافة. ولن تُعِدْ سليماً من تعمّد الارتطام بها. والتي رمت بنفسها في الصباح تعرف ذلك.
أرادت وضع نهاية لحياتها التي كانت قد انتهت. أدركت أن لا واحدة من بناتها الثلاث، ستصل في موعدها “للصبحية” التي تُعد طقوسها البسيطة باعتيادية، ركوة قهوة كبيرة، طبق من الكعك الذي تصنعه في المنزل، زجاجة مياه باردة وكأس بلور طويل العنق… وكلام يحتشد في صدرها تريد تبليغه بصوت عالٍ، رغم أنها وبناتها على قناعة أن ما يتداولْنه ليس سوى كلام بائت، يلْكنه في أفواههن بلا نهاية، وهن جالسات تحت صورة الأب الراحل منذ عقد من الزمن، يتحدثن عن نقص وافتقاد الخبز والمياه والكهرباء والاتصالات وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتوقف عمل أزواجهن، ومحنة مدارس الأولاد، وتزايد قوائم الوفيات والمهاجرين والنازحين بأسبابها المتعددة. تتبددن حفنة الأمان واستحالة عودته إلى جوف الكف المكور. ويتريثن حين يتسرب طرف الحديث عن المستقبل، يحدقن في وجوه بعضهن كأنهن متفقات على تخمينه، ليؤكدن بعيونهن المنفتحة، والقلقة كيرقات ملونة، على استحالة الحديث عنه بيقينية، كما كنّ يتحدثن فيما مضى من الأيام عن فيلم رأينه للمرة الثانية.
قلنَ بثبات عقائدي، في رغبة للتأكيد على ضرورة التأني، قبل اتخاذ أي قرار، ينبغي العد للعشرة.- حسناً، ها إننا نعد للعشرة، وماذا بعد؟- أن تُعِدْن العد للعشرة، مرة ثانية.ترى ما كانت تلك القرارات الجليلة، التي توجب العامة التأني المرتبك في الرد المباشر عليها: مواجهة سفاهة بائع العرقسوس، يقرع طاستاه النحاسيتين في قيلولة آب، اعتماد النمائم الصباحية وإعادة ترويجها كحقائق، بعد أن تتخذ صيغ أخبار مؤكدة من جارات ذربات اللسان، عدم التريث قبل إعداد القهوة فور دخول الضيوف إلى المنزل، نفض الوسائد بينما الجارة في الشرفة الأدنى تنشر غسيلها الأبيض…ولما تزل حبوب الفاصولياء البيضاء تستغرق وقتاً طويلاً حتى تنضج، وتقف الأم الشابة أمام عتبة بيتها مع جارات رافعات أكمام أثوابهن الطويلة حتى المرفقين، لتتبادلن أحاديث الخبرات في طهي البقول بأوقات قصيرة، والتمكن من تطويع صلابة حبوبها. ويبحثن عن وسائل مختلفة تساعدهن على تلوين البيض بغير أوراق البصل الجافة، ليصلن بالتجارب إلى عرْق البقدونس وحبوب السماق وأوراق اليوكاليبتوس.. وعن إمكانية صنع المخللات من الجزر والخوخ الأخضر… أتقنّ أشياء كثيرة، وفاتتهن غالباً مهارة العدّ للعشرة.
يقلين بالزيت المستخرج من قلب بذور القطن شرائح اللفت المتبّلة بالملح والكزبرة ويقدّمنها لأولادهن على أنها سمك نهري بلا حسك، وهم يتحلقون حول بعضهم ويأكلونها بشهية، بعد أن يوزعوها على الأرغفة المنبسطة ويلفوها على هيئة اسطوانية، ولا يلبث أن يسيل مزيج زيتها وماؤها على بناطيلهم النظيفة، ويرتشفون معها ماء الحصرم المثوّم على أنه السلطة المناسبة لهذه الوجبة، ولم يكونوا يكترثون بحقيقة أن ما يأكلوه هو السمك النهري أو سواه، لكونهم لم يكونوا قد عرفوا السمك، ولم يدخل إلى مطابخ بيوتهم، ولأنهم جياع. وطريق الجوع طويل، ويحتمل المزيد من اختبارات الأطعمة، كأن تطبخ عيدان السلق مع البصل المفروم والزيت، والبرغل المحمول من الجوف العميق للدوارق الفخارية والمرمي كحفنات من التراب في الماء المغلي.لا يهدئن على الإطلاق، يشددن شعورهنّ إلى الخلف، ليظهرنها دون إرادتهن بهيئة أذيال أفراس خرافية، يربطنها بسوار من مطاط أبيض، يقصصنه من الحزمة ذاتها التي يجددن منها خصور سراويلهن الداخلية المهترئة، ليحملن بعدها أولادهن بذراع تلفهم إلى صدورهن، ويقلّبن بالأخرى مغرفة شوربة العدس. ويغنين في أوقاتهن القليلة الرائقة “أول عِشرة محبوبي، هداني خاتم ألماس…”
ويؤكدن مرات عدة على ألماس، ألماس… ألماس. تقول بعدها أصغرهن عمراً: نعم ألماس، لا هذه الكشتبانات الحديدية اللاتي تضعنها في أصابعكن، لتتجنبن وخز الإبر المؤلمة الدامية.وسادت بينهن قناعة عميقة، أن الادخار بالأعمال الخيرة لا تجنى عواقبه في هذه الدنيا، بل في دنيا أخرى، وأن الخرزات الزرقاء التي يوزعنها على زوايا النوافذ وفوق باب البيت قد لا تحجب آثار العيون الشريرة، ولكن تحذرها بضرورة الكف عن الشر.ويتأوّهنَ في آخر الليل من أوجاع مفاصلهن وبيادر من لواعج عاطفية تخشخش كحبال مؤونة الخضار اليابسة، فيردّ عليهن أزواجهن بتأوهات مضادة لا أكثر.
مسيرة طويلة وثقيلة على الجميع، تعلّمت في دروبها إنضاج كل الحبوب والبقول والخضراوات وترقيع الجوارب والملابس، ووثقت في ذاكرتها المقادير المناسبة لصنع المربيات والمخللات. إلا هذه الحياة بقيت نيئة وعسيرة على النضج والترقيع، واستعصى الوصول إلى فك أحجية مقاديرها.
ولا واحدة من إحداهن ردّت على الهاتف الذي لا يكفّ عن الرنين، عدت للعشرة وافترضت أنهن على الطريق، أو ربما على درج العمارة. ترى لماذا لم تنتبه للحقائب الجلدية التي كانت تراها مركونة في زوايا بيوتهن، ولماذا تقبلت الأسباب التي سردنها تباعاً، عن ضرورات السفر المؤقت، حتى نجنب أولادنا الرعب اليومي واحتمالات الموت المجاني، ونعود بعدها إلى حياتنا الرائقة معاً.ليس الآن الزمان المناسب للتساؤل عن الأسباب التي تدفع سيدة مؤمنة، للتضحية بكل سنوات صلاتها وصيامها بفعلة لا ترضي الله، ولا ترضي ممثليه.
وما من جديد يمكن قوله في الانتحار، حين يُرتبك في لفظ بديله.ترى ما الذي عُرض أمامها بديلاً للانتحار؟ عدا عن ذلك الموضوع الغنائي الذي يدعو لضرورة الصبر والتمسك بالحياة والتفاؤل بالمستقبل، والعمل الصبور على إيجاد خيارات أخرى. لكن الخيارات بغياب حرية الانحياز التفضيلي بينها لا تبقى خيارات، تبقى خضوعاً لما صنعته علاقات القوة. وهل تثبّت الانتحار على صيغة واحدة، تختزل بقتل النفس بغير حق. وماذا عن تلك، التي باتت تسمّى الانتحارات البطيئة، الذي يُعمل على إعداد إكسيرها القاتل نطاسون يحاصرون العامة بنقص الغذاء والدواء والنزوح من المسكن، النوم في الشوارع، الانسحاب كالضواري إلى الكهوف والغابات، موت يرسمه القتلة بعناية فائقة ودقة هندسية ويبلغنه لأتباعهم بتعليمات حاسمة.
ها هي أخيراً وجدت نفسها وحيدة بلا معيل ولا مؤنس، فاستبدلت الموت المؤجل بموت معجل. كما هو خيار ذاك الرجل في القرية التي على تخوم المدينة حين قال: سأقتل نفسي وأسرتي قبل أن يأتوا ويقتلونا وينهشوا لحم بناتي.لا يتركهم الصوت الراعد، كما لم يتركهم فيما مضى، غير مبالٍ بالقدرة الآدمية على التحمل، ليسرد بصوت خشن سير الرجال الأباة… يونس وأيوب ودانيال، ويختم القول: كما تقبل أولئك مصيرهم، تقبّل مصيرك!!- مصيرنا!! لكنك تتركنا حتى خلنا أنك نسيتنا، وتزيد على محنتنا بامتحانات افتراضية لا تنتهي.
* كاتب من سوريا
السفير