بعد الفيتو.. القيادة الصينية الجديدة ودبلوماسية التفسير
شفيق شقير
استخدمت الصين “الفيتو” في مجلس الأمن ضد قرارين -يهددان بفرض عقوبات على النظام السوري- حظيا بدعم الجامعة العربية، وآخر ثالث تقدمت به دول غربية، في مشهد فُهم عربيًا على أنه دعم لحكم الرئيس بشار الأسد (رويترز)
بعد انتخاب القيادة الجديدة للحزب الشيوعي الصيني واختيار شي جين بينغ رئيسًا جديدًا للصين، نشطت بكين في حملة دبلوماسية سخّرت لها الخارجية الصينية عددًا ضخمًا من الأطر والمؤسسات الأكاديمية والسياسية والاجتماعية لتوضيح موقفها من الربيع العربي، ومما يجري في سوريا خاصة بعد استعمالها للفيتو الذي فُهم عربيًا على أنه دعم لحكم الرئيس بشار الأسد. تأتي هذه الخطوة بعد أن أدركت أن مواقفها لا تلقى ترحيبًا أو تفهمًا في معظم العواصم العربية، ولدى شرائح واسعة من الجمهور العربي.
وقد أوفدت بكين لهذه الغاية عدة وفود إلى أكثر من بلد عربي، كما حرصت على استقبال أعداد متزايدة من الوفود العربية، لتقف على ما لديهم من مآخذ وتشرح لهم رؤيتها وتقديرها لواقع العرب ومآله(1).
الربيع العربي صينيًا
لم يعد خافيًا توجس الصين من الربيع العربي ومن تداعياته الإقليمية والدولية وكذلك موقفها المتحفظ من هذه الثورات ما جعل بكين تدرج هذا الملف ضمن إستراتيجيتها المتبعة في التعامل مع أميركا والإسلام السياسي. ويدمن المسؤولون الصينيون، رغم لغتهم الدبلوماسية الفائقة، على توصيف الثورات العربية بأنها “اضطرابات” وأن أسبابها الحقيقية عوامل داخلية اجتماعية وأخرى اقتصادية أكثر منها سياسية، مثل بطء التنمية الاقتصادية في مقابل النمو السكاني السريع، وارتفاع معدلات البطالة وانتشار الفساد إضافة إلى بطء عملية التحول أو التغيير الديمقراطي، مع تشديدهم بالمقابل على أنه من حق العرب (أي الحكام والشعوب معًا) تقرير الشكل الديمقراطي الذي يريدون ونوع التنمية التي يرغبونها.
وفي الجانب السياسي للثورات، يُلاحَظ أن الدوائر الأكاديمية والبحثية ذات العلاقة بصناعة القرار الصيني أو القريبة منه أكثر حرية في التعبير عن معتقداتها؛ فهي تصف العرب بالتناقض، وأنهم بدلاً من أن يواجهوا المشاكل الاجتماعية من بطالة وفساد وإحلال الديمقراطية “بالتوحد”، فقد أدخلوا بلدانهم في الفوضى والاضطراب تحت عنوان “الثورة”. وجُلّ ما حققته هذه الثورات -حسب التقديرات الصينية- “حرية التقاتل فيما بين المصريين”، “والفوضى في ليبيا”… إلى آخر ذلك من وصف ينسجم مع المتضررين من الثورات العربية أكثر من انسجامه مع الموقف الشعبي العام.
ربما لهذا لن يكون غريبًا أن ينحو موقف الصين من الثورة السورية إلى مزيد من التشدد، خاصة بعد تحولها إلى “نزاع مسلح بين الدولة ومسلحين معارضين”. ولكن بكين في الوقت نفسه لا تريد أن تثير ضدها حفيظة الدول العربية المؤيدة للثورة، وتخشى من أن تصبح شعوب المنطقة معادية لها، ويبدو أن الموازنة بين القرارين في لعبة البحث عن مصلحتها أفضت بالصين إلى استخدام الفيتو.
تجاوز مساوئ الفيتو دون تغيير المسار
استخدمت الصين “الفيتو” في مجلس الأمن ضد قرارين -يهددان بفرض عقوبات على النظام السوري- حظيا بدعم الجامعة العربية، وآخر ثالث تقدمت به دول غربية، في مشهد استثنائي آلت ثماره “لمصلحة النظام السوري” وجرت مفاعيله ضد المعارضة السورية والدول المؤيدة لها.
ولم تكن بحاجة لوقت طويل كي تدرك أن استعمالها للفيتو قد أساء إليها في الشارع العربي وأثار سخط أغلب الدول العربية لاسيما الخليجية منها، وأنها معنية بإطلاق حملة دبلوماسية إنقاذية في هذا الصدد، وهي الحريصة على كسب العرب حرصها على منافع كثيرة، منها ثلاث رئيسة لها أهمية قصوى في الأجندة الصينية:
الحفاظ على صورتها وسمعتها الإيجابية في العالم العربي، وهي الحريصة على إشاعتها عمومًا بين شعوب ودول العالم التي لها معها مصالح مشتركة، خاصة دول العالم الثالث والدول النامية، وضمنًا دول وشعوب العالم العربي.
استمرار تدفق الطاقة من المنطقة العربية ومنها الخليج إلى الصين، فالمنطقة العربية هي أحد المصادر الرئيسة للطاقة عالميا، وهي هدف إستراتيجي لبكين لحاجتها الماسة لها، حيث يرتبط نمط الإنتاج الصيني بها.
استمرار التبادل التجاري والشراكة الاقتصادية مع العالم العربي؛ فمن حيث المبدأ يُعتبر النمو المستمر في الاقتصاد الصيني حاجة وليس مجرد رفاهية، ويتطلب منها تنمية العلاقات الاقتصادية مع مختلف دول العالم ومنها العالم العربي، الذي هو لمصلحة الصين دائمًا إذا ما أخذنا بالاعتبار أنها تحظى في نفس الوقت بالنفط وبسوق استهلاكية لبضائعها ومنتجاتها.
الصين لا ترى أي خطأ في استخدامها حق الفيتو ولا في توصيفها للربيع العربي عمومًا، ولا ترى ضرورة لتغيير السياسة التي انتهجتها في التعامل مع الأزمة السورية، وتعوّل على الدبلوماسية وعلى عامل الزمن لإثبات صحة قراءتها للأحداث. وترى أن العرب سيدركون لاحقًا صوابية الموقف الصيني وأن ما قامت به كان لمصلحتهم.
صناعة “التفهم العربي”
للمواءمة ما بين الاستمرار في سياستها المقررة، والحد من الأضرار التي قد تلحق بها نتيجة لذلك، اختارت الصين الدبلوماسية بخطاب يضفي على أفعالها المعيارية والقصد الحسن، على أمل كسب “تفهم العرب” للموقف الصيني وعدم البناء عليه سلبيًا، وهي تؤكد في هذا السياق على الآتي:
الموقف الصيني من الثورات العربية -والذي كانت ذروته استخدام الفيتو آنف الذكر- منسجم مع المبدأ الذي تلتزمه الصين في علاقاتها الخارجية مع الجميع، وهو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، “لأن التدخل الأجنبي لتغيير رئيس أو نظام لاسيما السوري يعني القبول بأن يتدخل الآخرون في شأننا”. من ذلك أن موقفهم من الرئيس المصري محمد مرسي والمعارضة المصرية الحالية شبيه بموقفهم من الرئيس بشار الأسد من حيث عدم التدخل. وهم يشجعون الانتقال السلمي للسلطة في دمشق بالتوافق، ويضربون مثالاً لذلك بوجود سابقة في مصر حيث انتقلت السلطة سلميًا من الرئيس مبارك الذي تنازل طوعًا، وليس المثال اليمني أيضا عن ذلك ببعيد.
موقف الصين من الطرفين السوريين النظام والمعارضة واحد، ويقوم على دعوة الطرفين لحل مشاكلهما بالحوار وعدم استعمال العنف، ورفض التدخل الأجنبي، وجاء الفيتو لمنع التدخل الأجنبي فحسب وليس لمصلحة أحد الطرفين على حساب الآخر. ويعتقد الصينيون -كما يقولون- أن موقفهم سيحول دون مفاقمة النزاع والفوضى وهدر المزيد من الدماء لأن الحل في نهاية المطاف لن يكون إلا عبر الحوار.
التأكيد على حرص الصين على تعزيز الصداقة مع العرب، وأن ما تتخذه من قرارات إزاء التطورات في المنطقة هو لمصلحة العرب كما هو لمصلحتها هي، وليس مرتبطًا بأي محور خارجي، وسيدرك العرب هذا في المستقبل.
تذكّر بكين دائما بلقاءاتها مع شخصيات من المعارضة السورية الداخلية أو الخارجية، إضافة إلى العلاقة المستقرة مع النظام. ويقول مسؤولون في وزارة الخارجية إنهم قدموا مساعدات للاجئين السوريين في لبنان وتركيا والأردن تقرب من سبعة ملايين دولار، وذلك في إطار موقف بكين السياسي الرافض للعنف والمشجع للحل التفاوضي دون أي تدخل خارجي.
المقاول الصيني
ومن المفارقات أن الصين أعلنت عن سعيها لزيادة التبادل التجاري مع الدول العربية من حوالي 222 مليار دولار عام 2013 إلى 300 مليار عام 2014، ومعظمها مع الدول الخليجية منها، وذلك في الوقت الذي تسير فيه في طريق سياسي معاكس لأغلب هذه الدول وشعوبها فيما يخص الربيع العربي وأكثر تحديدًا في الشأن السوري(2).
ويساعدها على ذلك طبيعة السياسة الصينية التي تقوم على الفصل بين التجارة والاقتصاد من جهة والسياسة والأيديولوجيا من جهة أخرى؛ حيث لم تمنعها الخصومة التاريخية على سبيل المثال لا الحصر أن تندفع في شراكات اقتصادية ضخمة مع أميركا واليابان وهما خصمان تاريخيان. كما ساعدها على ذلك العلاقة التاريخية الجيدة بين العرب وبكين، وعدم اندفاع الصين إلى تحميل “الفيتو” في الشأن السوري، أي مضمون سياسي يتصل بسياستها الخارجية.
وقائع سلبية في الخطاب الصيني
يتمسك الصينيون بإنكار وجود أي تداعيات سلبية حقيقية للفيتو، وأن الأمر يرتبط بسوء تفسير وفهم عربي له، ويقترحون أنهم ربما قصّروا في شرح وجهة نظرهم وطبيعة موقفهم لأصدقائهم العرب. هذا الإنكار الصيني يُقابَل بوقائع سلبية لا يمكن إغفالها قد لازمت الفيتو الصيني لا ينفك معارضوه عن الجهر بها، من ذلك:
أن الفيتو الصيني جاء في سياق معادٍ للمعارضة السورية بغضّ النظر عن نواياه، وأنه جاء محمولاً بالفيتو الروسي المؤيد لبشار الأسد ومستظلاً برؤية إيران ومحورها للحل؛ ما شجّع الرئيس الأسد على المضي قدمًا في استعمال العنف، حتى وصل به الأمر لاستعمال الطائرات والسفن والصواريخ.
الفيتو الصيني تجاهل أنه جاء على الأقل ضد قرارين حظيا بدعم الجامعة العربية، ودعم جُلّ الدول العربية، وليس ضد قرار غربي فقط، ولم يكن يستهدف التدخل الأجنبي بل “فرض عقوبات على النظام”، وهناك سابقة في الشأن الإيراني حيث وافقت الصين على فرض عقوبات عليها(3)، مع العلم أن الأزمة السورية لم تعد أزمة داخلية بل تجاوزت ذلك بأشواط وأصبحت قضية إقليمية ولعبة دولية.
تجاهلت الصين أن استخدامها للفيتو في القضية السورية يعني أنها تتجه نحو المزيد من التدخل في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، وأعطت رسالة سلبية عن نوعية هذا التدخل الذي قد تدشنه في المستقبل.
تجاهلت الصين أنها لو امتنعت عن التصويت لكانت خففت من سلبيات تداعيات الموقف الروسي الذي يقف إلى جانب النظام، وجاء الفيتو الصيني ليمنح الفيتو الروسي قوة وشكّلا معًا غطاء للتدخل الإيراني في الشأن السوري.
تجاهلت الصين أن غالب الرأي العام العربي رفض موقفها واختارت أن تتعامل معه على أنه موقف متوازن بين فريقين، مساوية بين مواقف الأقليات الخائفة والخاضعة للابتزاز من قوى إقليمية وغربية، وبين أغلبية شعوب المنطقة.
خلاصة
ركبت الصين مركب روسيا باستعمال الفيتو لكنها تطلب من العرب أن لا ينظروا إليها نظرتهم للروس أو لسواهم، فهي لا تريد بيئة رسمية أو شعبية معادية أو رافضة لها سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، ولا تريد أن يلصق بسمعتها ما قد التصق بسواها عندما أطلقت شرائح شعبية دعوات لمقاطعة تلك الدول أو حرق أعلامها.
وتريد من العرب جميعًا أن يحفظوا الصداقة معها “وأن يتفهموا” استخدامها للفيتو في الشأن السوري دون أن تعير أي انتباه لتغيير سياساتها أو تعديل بعض مساراتها. وتريد أن ترفع من مستوى التبادل التجاري مع العرب وأن لا يربطوا بين المسار السياسي وسواه من المسارات الأخرى.
وتعرّف الصين “الثورات العربية” وفق قاموسها الذي يحاذر من ربطها بأية أبعاد سياسية أو حقوقية وتحصره في الشأن الاجتماعي، مع إعادة تدوير بعض التعريفات لقضايا هي سياسية في الأصل “كالديمقراطية والتغيير” وما يشبهها، لتصبح مفردات اقتصادية واجتماعية فحسب.
وعلى العموم فإن الصين تحاذر من المسؤوليات الملقاة على عاتقها كدولة عضو في الأمم المتحدة، فتصف نفسها بأنها “أكبر دولة نامية”، أي هي كبيرة بما يكفي لأن تفرض على الآخرين احترامها، لكنها “نامية” أيضًا بما لا يجيز للآخرين أن يطلبوا منها ما قد يُطلب من الدول الكبرى.
ورغم ما تبذله الصين من جهد للتخفيف من ثقل الواجبات الملقاة على عاتقها ولتثبيت ما لها من حقوق لدى العالم عمومًا والعرب خصوصًا، سيبقى الفيتو الصيني مثار استغراب في تاريخ العلاقات الصينية-العربية، وهناك الكثير من التحولات في العالم العربي بما قد يجعل عرب ما بعد الثورات أكثر تطلبًا من ذي قبل، سواء من الصين أو من سواها، وسواء في الاقتصاد أو السياسة، وحتمًا سيتوقعون من الصين أن تكون أكثر حماسًا في المستقبل لاستعمال الفيتو بما يخدم مصالح العرب الواضحة ويحمي مصالح الصين في المنطقة العربية.
___________________________________
شفيق شقير – باحث في شؤون المشرق العربي والحركات الإسلامية
1- أعد الكاتب هذا التقرير بعد عدة لقاءات مع مسؤولين وأكاديميين وباحثين صينيين في شنغهاي وبكين.
2- وافقت الصين في يوليو/تموز 2006 على قرار مجلس الأمن رقم 1696 الذي هدد بفرض عقوبات على إيران، وفي ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه دعمت القرار 1737 الذي فرض عقوبات على الصادرات والواردات النووية لإيران. وفي مارس/آذار 2007 دعمت الصين القرار 1747 الذي وسّع نطاق العقوبات لتشمل حظرًا على صادرات السلاح الإيرانية.
3- صحيفة الشعب الصينية أون لاين: http://arabic.people.com.cn/31659/7833179.html