صفحات العالم

بعد انهيار «دولة الخرافة»: الصراع بين أمريكا ومحور المقاومة يشتّد/ د. عصام نعمان

 

 

 

انهارت «دولة الخلافة»، بل «دولة الخرافة» كما يسميها مناهضو «داعش» الكثر في العراق وعالم العرب، لكن «داعش» كتنظيم لم ينهر… بعد. إنه ما زال ناشطاً في تلعفر وصحراءي نينوى والأنبار وقضاء الحويجة، جنوب غرب كركوك، والشريط العمراني الممتد بين حديثة والقائم على الحدود العراقية – السورية.

انهارت دولة «داعش» التي كانت احتلت نحو ثلث مساحة العراق، قبل أن تتهاوى وتتحول إلى مجموعات مسلحة وذئاب منفردة منتشرة في بعض المناطق والبلدات والأحياء، تقاتل يائسة عمّا تبقّى لها من أراضٍ واتباع، فكيف تراها تتدبر أمورها في زمن الانحسار والاندحار؟

لن يتخلى «داعش» عن عقيدته القتالية. إنها «ادارة التوحش» بلا رحمة ضد كل اعدائه ومَن لا يواليه. مراقبون متابعون لتجربته القاسية في العراق يرجّحون أن تنقل قيادة التنظيم «عاصمته» إلى الحويجة، مستغلةً الصراع المحتدم بين الحكومة المركزية في بغداد وسلطة بارزاني في كردستان العراق، على محافظة كركوك التي وضع البارزانيون يدهم عليها في حمأة مواجهة «داعش». مقاتلة الدواعش في ما تبقّى لهم من حضور لن تتطلب وقتاً طويلاً، إلاّ اذا انفجر صراع من نوع آخر بين ثلاثة اطراف لها حضورها في العراق: أمريكا وتركيا وايران.

أمريكا لها حضور عسكري يعود إلى زمن احتلالها العراق عام 2003. صحيح انه تقلّص كثيراً منذ عام 2008، لكنه ما زال ناشطاً، من خلال ما يزيد عن 5000 ضابط وجندي مزودين اسلحة ثقيلة ومتطورة.

نفوذ أمريكا السياسي قوي كحضورها العسكري إن لم يكن أقوى. مردُّ ذلك إلى تأثيرها على فريق من السياسيين المتنفذين كانوا عادوا إلى العراق على ظهور دباباتها الزاحفة لاحتلاله. إلى ذلك، تستغل واشنطن الصراع المحتدم بين حكومتي بغداد واربيل، كما مواجهة «داعش» من خلال ما يُسمى «التحالف الدولي».

في هذه المجالات، قامت بتدريب وتسليح مجموعات من عشائر محافظة الانبار السنيّة، بدعوى تمكينها من حماية نفسها من تنظيمات موسومة بأنها شيعية البنية وايرانية التوجّه.

تركيا لها حضور سياسي وعسكري في العراق. حضورها السياسي يتعزز بتأييد جمهور التركمان عموماً، ولاسيما في تلعفر وكركوك. حضورها العسكري يتجلّى في احتلالها منطقة بعشيقة المحاذية لحدودها مع العراق. ولتركيا مطامع قديمة في مدينة الموصل، التي تدّعي أن بريطانيا وفرنسا سلختاها عنها في اعقاب انهيار السلطنة العثماية، خلال الحرب العالمية الاولى، وقيامهما بتقاسم بلاد الشام وبلاد الرافدين بموجب ما عُرف باتفاقية سايكس – بيكو. إلى ذلك، تقوم تركيا بتعزيز حضورها العسكري في شمال سوريا لإحباط محاولات بعض الكرد السوريين، بدعمٍ ملحوظ من امريكا، إقامة دويلة كردية، أو أقلّه، منطقة حكم ذاتي.

ايران لها ايضاً حضور سياسي وعسكري في العراق. حضورها السياسي يتعزز بتعاطف فريق من اهل الشيعة معها، نتيجةَ دعمها معارضي الرئيس الراحل صدام حسين قبل الاحتلال الامريكي وبعده. حضورها العسكري تمثّل، بادئ الامر، بدعمها تنظيمات شعبية، طابعها الغالب شيعي، معادية لـِ»داعش» كما لامريكا. غير أن تطورات الحرب في سوريا وعليها، ولاسيما بعد سيطرة «داعش» على مساحات شاسعة من محافظاتها الشرقية المحاذية للحدود العراقية – السورية، وتفاقم مناهضة أمريكا لسوريا ولرئيسها بشار الأسد وتعاونها مداورةً مع «داعش» ضد الجيش السوري، حمل ايران على تكثيف حضورها العسكري في العراق، وصولاً إلى تحريك وحدات من الحرس الثوري الإيراني، ومقاتلين في صفوف «فيلق القدس» بقيادة اللواء قاسم سليماني، ودفعها نحو الحدود العراقية – السورية.

في هذا السياق، لا تخفي طهران اهدافها: إبعاد قوات أمريكا وحلفائها عن الحدود بين البلدين لضمان إقامة جسر بري يمتد من ايران عبر العراق وصولاً إلى سوريا ولبنان، وتوفير دعم لوجيستي للجيش السوري وحلفائه، تكفل التغلّب على فلول «داعش» و»النصرة» واستعادة وحدة البلاد وسيادتها. أكثر من ذلك، ترمي ايران وسائر اطراف محور المقاومة إلى بناء وجود عسكري شرقي الجولان السوري المحتل ليكون منطلقاً لمقاومة تتكامل مع المقاومة المتربصة بـ»اسرائيل» في شمال غربي فلسطين المحتلة.

أمريكا و»إسرائيل» والسعودية، كما روسيا وتركيا، تُدرك مفاعيل الصراع المحتدم في سوريا والعراق، وانعكاساته الإقليمية والدولية، ما يفرض على جميع اللاعبين التعامل مع التطورات الجارية والمتفاقمة في منظور الصراع الشامل والمتعدد الأطراف والأغراض والمصالح، في البرزخ الممتد من الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط وصولاً إلى الشواطئ الجنوبية لبحر قزوين.

في العراق، تقوم أمريكا بتعزيز الأطراف السنّية المتخوّفة من ايران بغية توليف طبقة حاكمة تحول دون التحاق البلاد بمحور المقاومة، وتحول تالياً دون قيام العراق، بالتعاون مع ايران وروسيا، باستثمار ثروته الغازية في صحراء الأنبار، التي تقدّر بما لا يقل عن 57 مليار متر مكعب.

في سوريا، تتقصّد أمريكا و»اسرائيل» إطالة أمد الحرب، بتسعير القتال في منطقة القنيطرة وفي منطقة درعا، وبتوظيف فريق من الكرد السوريين في مقاتلة «داعش» في محافظة الرقة، املاً في أن يتمكّن هؤلاء، بالتعاون مع مجموعات سورية محلية درّبتها أمريكا وسلّحتها لتقوم بإدارة هذه المناطق بعد طرد «داعش» منها، ودعمها مع مجموعات مماثلة في محافظة ادلب واطراف غوطة دمشق الشرقية، للحصول على تمثيل وازن في محادثات جنيف المقبلة بشأن مستقبل سوريا السياسي.

دعمت واشنطن مواقفها وترتيباتها آنفة الذكر بعمليات عسكرية لافتة:

– اقامت موقعاً عسكرياً في منطقة التنف بجنوب شرق سوريا وقصفت وحدات نظامية سورية في جوارها.

– اسقطت طائرة حربية سورية جنوب الرقة.

قصفت مطار الشعيرات بالصواريخ بدعوى الاقتصاص من سوريا بعد اتهامها باستعمال اسلحة كيميائية في منطقة خان شيخون.

بعد تهاوي اتهام سوريا باستعمال اسلحة كيميائية، عقب تحقيقٍ موضوعي نشره الصحافي الامريكي المعروف سيمور هيرش، هدّد البيت الأبيض سوريا مجدداً بضربها بدعوى انها تستعد لإستعمال الأسلحة الكيميائية مرة اخرى.

عرضت عضلاتها البحرية بإرسال حاملة الطائرات «جورج بوش» إلى ميناء حيفا.

التهديدات الامريكية وتّرت الأجواء ليس بين واشنطن ودمشق فحسب، بل بينها وبين موسكو ايضاً، التي سارعت إلى اعلان دعمها لسوريا بإرسال رئيس اركان جيشها إلى قاعدة حميميم، ليكون في استقبال الرئيس الأسد اثناء تفقده عشرات المقاتلات الروسية الرابضة فيه، ونشرت كتيبة مغاوير روسية في الطرف الشرقي لمحافظة السويداء المحاذي للحدود مع الاردن، اي في منطقة غير بعيدة عن موقع التنف، حيث تحتشد قوات امريكية وحليفة معدّة لمحاولة التدخل ضد الجيش السوري. برودة اعصاب المسؤولين السوريين ومسارعة المسؤولين الروس والمسؤولين الإيرانيين إلى تأكيد دعمهم السياسي والعسكري لسوريا، حملتا واشنطن على تنفيس حملتها المفتعلة بادعاء وزير الدفاع الامريكي جيمس ماتيس عن أن سوريا «تراجعت» عن استعمال اسلحة كيميائية.

ماذا بعد؟

ستستمر واشنطن في ممارسة مناورات سياسية وألعاب نارية للتهويل على سوريا، من أجل عرقلة استعادة جيشها اراضٍ سورية ما زالت تحت سيطرة «داعش» و»النصرة». ومع ذلك يمكن إعطاء تقدير موقف أوّلي لما جرى ويجري في العراق وسوريا من اشتباكات سياسية وعسكرية بين مختلف أطراف الصراع في آخر يونيو المنصرم: صمود وتقدّم محسوس سياسي وعسكري لمحور المقاومة، وارتباك وتعثر ملحوظان للولايات المتحدة وحلفائها.

والصراع مستمر.

كاتب لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى