بعد ثورات المنطقة: هل تغيير بنية الأنظمة سيؤدّي إلى تغيير بنية الدولة؟
حسين عمر()
تُعدّ الدولة التعبير المادّي الأكثر ملموسية للحداثة السياسية. وعلاقة الدولة بالحداثة السياسية تمثّل ميداناً جرى فيه الكثير من الجدل بينَ من اعتبر البناء الدولتي نتيجةً محتومة للتطوّر السياسي وبين من رأى عكس ذلك ودعا إلى فهم هذا البناء كابتكار خاصّ له صلة بالزمان والمكان، وكحلّ لجأت إليه بعض المجتمعات الغربية في عصر النهضة في سياق سعيها لمعالجة أزمات محدّدة أفرزتها القرون الأخيرة من العصر الوسيط.
وبمعزل عن هذا الجدل، تبدو العلاقة بين الدولة والحداثة تعميماً والسياسيّة منها تخصيصاً علاقة محايثة وثقى تجعلنا نجرؤ على القول بأنّ الدولة الحديثة هي المظهر الأبرز من مظاهر الحداثة السياسية، بل والقول بأنّها نتاج الحداثة السياسية الغربية، أيّ أنّها عمارة فكرية غربية. والقول بهذه الفرضية يحتّم علينا تتبّع مسار وسياق هذه الحداثة وانعكاساتها وتمثّلاتها خارج المدى الغربي.
والدولة ظهرت كمؤسسة لإدارة الشؤون العامة خارج الكلّية المجتمعية من خلال حصرها بفئة من فئات المجتمع. وقد ارتبط ظهورها أساساً بقيام المستقرات المتجاوزة للبنية الاجتماعية العشائرية غير المؤهّلة لإنتاج مؤسّسة كهذه. وما يبرّر تعدّدَ الأنساق هو التنوّعُ والتعددية الثقافيان اللذان يفرزان تجارب متباينة تتبين كلٌّ منها بالاستناد إلى الخصوصية التي تصيغ هويّة المجتمعات المعنية، رغم المشتركات والتشابهات التي تتجلّى كرهانات ناجمة عن عدم قدرة كلّ مجتمع على الانغلاق والتقوقع والتشرنق داخل ثقافته الخاصّة، وعن الحاجة إلى التفاعل المحكوم بنسق العلاقات المتبادلة على المستوى الدولي، وهذا ما يفسّر مشتركات تقنية سياسية بين نظم سياسية مختلفة في أشكالها وأطرها.
يفصّل برتران بادي وبيار بيرنبوم في عملهما “سوسيولوجيا الدولة” كيف أنّ هذا التعدّد للأنساق قد ترك تأثيره على مسار تطوّر أنماط الدولة لأنّ الدولة هي وليدة الواقع المتنوّع للمجتمعات المختلفة، ولذلك اتّخذت أشكالاً مختلفة باختلاف الواقع الذي أفرزها.
وفي هذا السياق يُمكِن النظر إلى الدولة في منطقتنا على أنّها استقطافٌ سابق لأوانه لثمرة تلك الحداثة السياسية التي لم نشهدها ولم نحظَ بالبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الصالحة لأن تكون حاضنة مناسبة لاستيلادها. ومن الطبيعي القول: إذا كان هيكل العمارة من طين، فلا يمكن أن يكون سقفها من الكريستال. وسقف العمارة المجتمعية والاقتصادية والثقافية هو البنيان السياسي وتعبيره الأبرز الدولة. فقد ظلّت الدولة في منطقتنا، منذ استقلالها عن المستعمر، على صورة النظم الحاكمة فيها. إذ كما اتّسمت الأنظمة بالاستبداد والشمولية المطلقين، تميّزت الدولة بالمركزية والصلابة المحكمتين. لم تراعِ الدولة- السلطة الطابع المركّب والمتنوّع لمجتمعاتها ولم تفسح السبيل أمام أيّ شكلٍ من أشكال التعبير السياسي المؤسّسي أمام المكوّنات المشكّلة لهذا التنوّع. بل وتمّ تفريغ الكيان السياسي البسيط والممركز من مضمونه وذلك من خلال خصخصة الدولة، أي جعلها دولة لأصحاب الحكم لا دولة الكليّة المجتمعية، دولة الفئة المستأثرة بالامتيازات على حساب المواطنين وحقوقهم، دولة نزع الحقوق عن المواطنين وفرض الواجبات عليهم خارج القانون، دولة التمثيل الجزئي الفئوي، لا دولة التعبير عن مجموع المكوّنات كجماعات ولا عن عموم المواطنين كأفراد، دولة تُمَرْكِز كلّ السلطات وتحتكرها في جهاز للسلطة (خاصّ) لا يقع خارج هياكل السلطات الثلاث المتعارف عليها فحسب بل ويعلوها ويجعلها شكلية ويضع نفسه فوق الدولة وفوق القانون. دولة لاميثاقية لا تستند في ممارسة سلطاتها على عقدٍ اجتماعي يتراضى عليه طرفا العقد أي الدولة والمجتمع يوثّقه وينظّمه الدستور. وبذلك مُسِخَت الدولة وأصبحت في هيئة سلطة مطلقة وجائرة. هذا التحايث بين استبداد السلطة ومركزية الدولة هو الذي يدفعنا إلى طرح السؤال: هل تفكيك بنية الاستبداد سيؤدّي إلى إعادة صياغة بنية الدولة؟ هل سيؤدي التغيير في بنية النظم الشمولية إلى الانتقال من حالة تكثّف وتمركز السلطات في المركز إلى حالة من توزيع السلطات بين المركز والأطراف، أي تفويض بعض السلطات إلى الأطراف لتتحوّل الدولة نحو أنماطٍ من اللامركزية ليست بالضرورة أن تكون مستنسخة عن تجارب بعينها. إنّ التنوّع الذي تتميّز بها مجتمعات هذه الدول يجعل من المشروع طرح السؤال حول هذا التحوّل في محتوى الدولة وشكلها من دولة صلبة إلى دولة مرنة.
() كاتب ومترجم سوري
المستقبل