بعد حلب… الكلام بربرية/ أمجد ناصر
لم تتوقَّف صحيفة عربية، موقع، تلفزة، دائرة حكومية، هيئة أهلية، صمتاً على تدمير حلب، واحتجاجاً على حقول القتل المفتوحة فيها. فعلت هذا مجلة ألمانية. مثلما فعلت مستشارتها ما لم يفعله العرب والمسلمون، الذين يتشدَّقون بمكارم الأخلاق والعرى الوثقى. لا مديح هنا ولا هجاء. لقد تجاوزنا أغراض الشعر العربي الطنّانة، الهازجة. تجاوزنا المفرقعات الكلامية. صرنا في موقعٍ آخر، ووقت آخر. فحيال هذا القتل الجماعي، مطلق السراح، يحق لنا قول ما قاله مفكر ألماني: بعد أوشفتز، الشعر بربرية. الكلام بربرية. ماذا ينفع الكلام حيال غبار الموت الأبيض الذي يتصاعد من زوايا مدينة الحب والطرب والطعام الشهي والعبقرية الفنية والتجارية، والصمود الطويل، الطويل، أمام محاولات محوها من الوجود؟ لا مديح ولا هجاء ولا رثاء، فقد صرنا وراء الكلام، ووراء الشعر، ووراء عورات العرب التي لا تسترها أية بلاغةٍ في الكون. تقول المجلة الألمانية (راجع “العربي الجديد”، 8 أكتوبر/ تشرين الأول) ما لا تقوله صحيفة عربية. تقول ما جدوى الكلام. والنقرات على الموقع. وعدّادات قراءات “فسيبوك”، أمام العجز التام للكلام والصور عن التعبير عمّا يجري هناك.
قلت شيئاً كهذا في هذا المنبر مراراً. قلت لنفسي: سأصمت. لن أستخدم هذه اللغة المراوغة التي تعطي مائة اسم للجربوع، ولكنها غير قادرة على تحريك شعرةٍ في مفرق أمةٍ تموت من الكسل والنفاق والجهل والتديّن الكاذب. هذا ما قاله عنهم القرآن. لست أنا من اخترع المنافقين، ولست أنا من هجا الأعراب. ولست أنا من عرف أن هؤلاء كاذبون. وأنهم متصنّعون. وأنهم أبعدُ الناس عن مكارم الأخلاق الحقيقية. تتوقف مجلة ألمانية عن الكلام، لأنه عاجز. تصمت، لأنها غير قادرة على إنقاذ طفل من تحت الردم، فيما نستمر نحن في الثرثرة. أين تجمّهر عشرة أشخاص في أيّ عاصمةٍ عربية احتجاجاً على قتل هؤلاء من دون سببٍ سوى أنهم محاصرون في المدينة، التي قرّر الطاغية بوتين وتابعه ماتي أن يجعلها نقطة تحوّل في صراعات القوة؟ لا تهمنا صراعات القوة. إلى الجحيم بمجلس الأمن والقوى العظمى غير القادرة على إرسال شحنة أغذية، أو أدوية، إلى مدينةٍ تموت. يفعلون أم لا يفعلون ليس مهماً. يجبرون روسيا على وقف بلطجتها التي صارت سورية ساحتها المفتوحة، أم ينحنون أمام العاصفة السلافية، هذا شأنهم. هذه صراعات القوة والمصالح بينهم.
لا شأن لنا في ذلك، على الرغم من أننا مسرح هذه الصراعات. وقودها وحطبها. ما يهمُّ هو نحن. أيننا؟ بل هل ظل معنى لضمير الرفع المنفصل المبني على الضمّ هذا؟ من يستخدمه؟ على ماذا يدلُّ؟ أين هو خارج درس النحو؟ خسرت المستشارة الألمانية شعبيةً وحضوراً سياسياً بسبب سياسة الباب المفتوح. دخل بلادها، في أقل من عام، أكثر من مليون لاجئ، معظمهم من سورية، ولم تغلق الباب، كما تفعل دول استعمرت المنطقة ونهبتها بعدما قسَّمتها قطعاً، تكبر أو تصغر، حسب مواردها. أيّة دولة عربية، غير الأردن ولبنان، وإقليمية غير تركيا، فتحت حدودها لنحو خمسة ملايين سوري، شرَّدتهم زرافةٌ تريد أن تفاوض العالم على عرشٍ من الجماجم؟ لِمَ لا تحلّ دول الخليج كارثة اختلالها السكاني بمن يتحدَّث لغتهم ويكتب مثلها من اليمين إلى اليسار؟ يقرّر منبر صحافي ألماني ذائع الصيت أن يصمت، لأنه غير قادر على شحن اللغة بما هو أكثر من الوصف. “يقول لِمَ لا يهزّنا سقوط المزيد من القتلى في سورية؟ هل لأنَّ ما يحدث بعيدٌ عنا؟ أم لأننا تبلَّدنا من كثرة الصور المروّعة والأخبار؟ أم لأننا لا نهتم بتلك الصور، بقصد أو من دون قصد، حمايةً لأنفسنا؟ أم لأنَّ سورية، ببساطة لا تعنينا بما يكفي؟”. ماذا لو قرَّرنا أن نسوّد صفحات صحفنا. أن نوقف بثَّ الثرثرة ومسابقات الأزياء والطبخ، والغناء والرقص، وأخبار الهزل الغنائي؟ هل يمكن أن نفعل ذلك يوماً، نصف يوم؟ ساعة؟
أراهنكم: هذا لن يحدث. ليس لأن الحياة “لازم تستمر”، بل لأنَّ النار لم تمتد إلينا.. مؤقتاً.. فقط.
العربي الجديد