بعد خمسمائة عام على ظهوره: مغامرة مثيرة مع الكتاب الذي يقدّسه الطغاة وتكرهه الشعوب!/ محمد منصور
قبل خمسمائة عام بالضبط وفي عام (1513) وبينما كان الإيطالي نيكولو مكيافيللي عاطلا عن العمل، ومنفيا في مزرعة لعائلته على بعد 16 كيلومترا من فلورنسا، قام بتأليف كتاب سماه: (الأمير) بهدف الحصول على وظيفة سياسية مرموقة في فلورنسا، بعد أن خسر وظيفته، عندما استسلمت الجمهورية الفلورنسية لعائلة (مديتشي) وحلفائها الأقوياء.
اتهم مكيافيللي بالمشاركة في مؤامرة (بيير باولو بوسكولي) ضد الميديشيين، وكان يأمل استعادة منصب أمين عام الجمهورية الذي كان يشغله.. ومن أجل ذلك قام مكيافيللي بإهداء الكتاب إلى (جوليانو دي مديتشي) الذي كان على وشك تولي الحكم في فلورنسا، وعندما مات (جوليانو) قام بتعديل إهداء الكتاب إلى خليفته (لورينزو دي مديتشي)… لكن مكيافيللي لم يحصل على الوظيفة التي أرادها، فالكتاب نشر بعد وفاته… ولكنه كان كافياً لكي يمنحه شهرة لم تحققها له كل كتبه السابقة، لأنه ببساطة وضع كتاباً يمكن وصفه باختصار بأنه كان: كتاباً إرشادياً للطغاة!
واقعية سياسية بلا أخلاق!
لويس الرابع عشر ونابليون بونابرت وبسمارك وهتلر، كل هؤلاء كانوا يحتفظون بنسخ من كتاب مكيافيللي هذا، أما طغاة مثل ستالين وماوتسي تونغ وغيرهما فيمكن أن نرى أثر هذا الكتاب في شخصياتهم وأنماط حكمهم، فقد أثار هذا الكتاب الصغير في حجمه، الكبير في صداه وأثره، الجدل منذ عصر النهضة حتى عصرنا هذا… لأن مكيافيللي عمل على تقديم وصفة جاهزة لكيفية اكتساب القوة والمحافظة عليها. كان مكيافيللي يقول ببساطة: إذا أردت أن تكون حاكماً أو قائداً فأنت تحتاج للسلطة، وإذا أردت الحصول على السلطة فإليك ما يتوجب عليك فعله كي تحتفظ بها!
لم يكن مكيافيللي مطبوعاً على الشر والانتهازية بالقدر الذي يتصوره قارئ كتابه، لكن هناك أسباباً لصيقة بالعصر الذي عاش فيه، دفعته للكتابة عما رآه كثيرون فيما بعد: (واقعية سياسية) كان مكيافيللي يستجيب للعالم على حقيقته. أراد للأمراء الإيطاليين المتنافسين فيما بينهم، أن يحصلوا على القوة والسلطة لأنها تجلب الاستقرار؛ فقد كانت إيطاليا في ذلك الوقت مزيجاً من المدن المتناحرة، وكانت كل مدينة مستقلة بذاتها وهذا جعل كلاً منها معرضة لخطر الهجوم. وعندما انهار الحكم الجمهوري في إيطالبا باستسلام فلورنسا لعائلة (مديتشي) كما أسلفنا، لم يهتم مكيافيللي بالأفكار المجردة للصواب والخطأ فيما يخص أشكال الحكم المختلفة، المتنافسة فيما بينها، ولكن بكيفية قدرة حكام إيطاليا على استعادة الاستقرار في البلاد. لقد ذهب إلى التفكير على الشكل التالي: لو كان طل حكام إيطاليا من الديكتاتوريين، فمن الأفضل أن يقوم هؤلاء الديكتاتوريون بوظيفتهم!
ألغى مكيافيللي في كتابه (الأمير) أي صلة بين الأخلاق والسياسة: فبالنسبة له يجب على الأمير أو الحاكم، أن يحاول الظهور بمظهر الحليم والمتدين والنزيه والأخلاقي. ولكن في الواقع، إن واجبات الأمير لا تسمح له بامتلاك أي من هذه الفضائل.. ولهذا ظل هذا الكتاب لسنوات طويلة في قائمة الكتب المحرمة لدى الكنيسة الكاثوليكية، كما اعتبره كثير من المفكرين في بريطانيا وفرنسا كتاباً مناسباً للطغاة والأشرار فقط… ويمكن تصنيفه عبر التاريخ بأنه الكتاب الذي يحبه الحكّام وتكرهه الشعوب، وخصوصا عندما تطبق أفكاره وأساليبه عليها!
كتاب عابر للعصور!
بعد موت مكيافيللي بقرن من الزمان، كتب (فرانسيس بيكون) أحد أوائل المفكرين السياسيين البريطانيين عام 1605 قائلاً: ‘ نحن مدينون بالفضل لمكيافيللي وآخرين من الذين يكتبون عما يفعله الإنسان، وليس ما يجب أن يفعله ‘ وبعد ذلك بثلاثمائة وخمسين سنة، قام أحد المفكرين السياسيين الحقيقيين في العصر الحديث وهو (مالكولم إكس) بعكس الفكرة وراء هذا الكتاب في خطاباته بشكل تام حيث قال:
‘الشيء الوحيد الذي تحترمه القوة هو القوة. معظم ما أقوله يبدو كما لو كان يثير المشاكل، ولكن هذه هي الحقيقة، ولا يمكنكم إنكار هذا. ربما تحبون أن أقول لكم هذا، ولكن لا يمكن إنكاره. إذا كنتم خائفين من قول الحقيقة فأنتم لا تستحقون الحرية’
وما يعيد كتاب (الأمير) الذي أسس لمدرسة في السياسة والحكم اسمها (المكيافيللية) ليست مناسبة مرور خمسة قرون على صدوره هذا العام وحسب، بل الكتاب الهام والطريف الذي صدر للصحفي تيم فيليبس مؤخراً بالعنوان نفسه، وصدرت ترجمته مؤخراً عن مكتبة (جرير)، والذي حاول من خلال مغامرة مثيرة لللاهتمام، أن يعيد شرح كتاب مكيافيللي إنما من منظور الأعمال في الوقت الراهن!
طوّر ذاتك مع مكيافيللي!
فيليبس ليس كاتباً سياسياً، لكنه صحفي متخصص في مجال الأعمال والتكنولوجيا والتغيير والابتكار الاجتماعي، وكان صاحب عمود متخصص في الانترنت والتنكولوجيا في صحيفة (الغارديان) البريطانية لمدة سنتين. وقد حول الأفكار السياسية التي قدمها مكيافيللي في كتابه للحكام والأمراء، إلى أفكار تنتمي إلى كتب التطوير الذاتي التي نطالعها بكثرة في المكتبات ودور النشر حاملة عناوين من قبيل: (كيف نفكر؟! كيف ننجح؟ كيف نكسب الأصدقاء… إلخ) وبذلك أصبحت أفكار مكيافيللي موجهة لعامة الناس لتطوير ذاتهم، وليس للحكام لتثبت حكمهم، وصناعة أساطير طغيانهم!
يقول تيم فيليبس في تقديمه لهذا الكتاب:
‘ بداخل قليل منا اعتقاد سائد أنه يمكن تحقيق القوة والسلطة بالموهبة فقط. مبادئ مثل (سياسات المنصب) و(العلاقات العامة) هي أفكار مكيافيللية. من المستحيل تنبي فكر مكيافيللي بشكل كامل في عالم اليوم، فلم يكن يؤلف الكتاب عن الواقع الأوروبي في القرن الواحد العشرين، ولكنه كان من المحتمل أنه أدرك طبيعة التجارة العالمية، والاستيلاء العدائي على السلطة، والتمويل العالمي’
تبدو هذه الكلمات محاولة من الكاتب لتبرير الطبيعة الانتهازية وقيم الحض على الاستبداد التي تنطوي عليها أفكار مكيافيللي، محذراً القارئ: ‘ لا تؤمن بأفكار مكيافيللي بالكامل، فهو لم يقدم طريقة للعيش لكل منا ‘ ولهذا فإن تيم فيليبس لا يعيد نسخ كتاب (الأمير) كما هو، بل يختار (52) فكرة منه، ليقدم لنا شرحاً عملياً ومعاصراً لها.. يصلح لمدراء تنفيذين أكثر منه رؤساء حكومات.. ولهذا يقول الناشر:
‘لا يعد شرح تيم فيليبس بديلا عن الأصل، بل يهدف ببساطة إلى توضيح طبيعة رؤى مكيافيللي للعالم والحياة، عن طريق إحياء هذه الرؤى من خلال دراسات حديثة خاصة بالأعمال والسياسة. هذا الشرح المتميز لكتاب الأمير يعتبر تبسيطاً مسلياً لأحد أكثر كتب العالم أهمية’.
أفكار مستبدة وانتهازية!
وأيا تكن الأهداف التي دفعت بفيليبس إلى إعادة إحياء أفكار مكيافيللي وتسويقها وعصرنتها في مجال الحياة العملية العامة، فإن قارئ هذا الكتاب السلس والجذاب، لا بد سيشعر بصدام قوي بين أفكاره وبين عالم الأخلاق التي قد ينتمي إليه او يؤمن به. فأفكار من قبيل: (الدناءة تنفع أيضاً) و(أن يرهبوك أفضل من أن يحبوك) و(الرحمة أمر مبالغ فيه) و(كن متوحشاً) و(كن شحيحاً) و(اكذب علي يا عزيزي) والتي تفيد أن قول الحقيقة هو السياسة الأفضل دائماً إلا بالطبع إن كنت تجيد الكذب، هي أفكار صادمة بالمعيار الأخلاقي ونصائح كنصيحة (صوت السلطة) التي تقول إذا أردت أن تضفي أهمية لرأيك اعثر على شخص مستقل يوافقك الرأي أمام الآخرين ومن الأفضل ان تستأجر واحداً… هي نصائح تضليلية شريرة هدفها خداع من حولك… مهما اعتبرت تلك (مهارة) او (ذكاء) في نظر الآخرين!
إن هذا الكتاب الذي يبث الكثير من الأفكار العمَلية الهامة من قبيل (كن واقعياً) و(كن قوياً) و(ادعم جيرانك الضعفاء) و(استعد لحدوث الأسوأ) تختلط رؤاهخ هذه، مع أفكار أخرى كتلك التي أشرنا إليها قبلاً، لتصنع عالماً من السلطة والنجاح والقوة، التي يمكن أن تجعل المرء يندفع لتحقيق غاياته دون أن يكترث بالوسيلة… ودون أن يتنبه إلى أن سلم القيم الذي يعطي للإنسان قيمة وقوة ومشروعية لنجاحاته، سينهار ويصبح خارج معادلة الغايات والوسائل معاً إذا أمعنا في اعتناق هذه الأفكار!
لكن كتاب (الأمير) بنسخته الحديثة المسلية، يبقى مفيداً جداً، لأنه يقدم للإنسان مرآة لذاته ولكثيرين ممن حوله، وربما يعطيه فرصة لتقييم بعض التجارب الناجحة، وتأمل أسرارها، وكيفية صعود أصحابها… والطرق الوعرة التي سلكوها من أجل الانتصار على صراع القيم الحاد داخلهم أو من حولهم!
إنه باختصار وصفة كابوسية لنجاح له بريق وجاذبية، لكن ليس له قدر كبير من الاحترام (الحقيقي) على المدى البعيد ربما!
* كاتب وصحافي سوري مقيم في دبي
القدس العربي