حازم نهارصفحات سورية

بعد زيارتي موسكو ولقاء لافروف


حازم نهار

وصلت الطائرة إلى موسكو، نزلت من الطائرة، وتوجهت نحو المطار، فاجأتني حركة الموظفين في المطار وطرق تعاملهم مع القادمين، أحسست وكأني في مطار دمشق. أخذت موظفة الجوازات تتأمل جواز سفري لربع ساعة، ثم أخذت الجواز الى غرفة جانبية أشبه بغرف التحقيق في فروع الأمن السورية، وحمدت الله أن سارت الأمور على خير بعد اتصالات ومراجعات أجراها المسؤول الأمني.

ركبت السيارة متوجهاً للفندق. كان طريق المطار شبيهاً بطريق مطار دمشق، فالشارع مقسوم نصفين بصفائح معدنية غبية، وفي الوسط أعمدة إنارة، وعلى الجانبين أشجار كثيفة مع فارق أنها في دمشق تقلصت إلى حدود أمتار وحسب نتيجة “السياسات الحكيمة” للنظام التي لم تبقِ إلا على مساحات خضراء محدودة.

في الطريق استغربت كثرة وجود سيارات أميركية وأوروبية ويابانية، في حين نادراً ما كانت عيناي تقعان على سيارة روسية الصنع، وهي الدولة العظمى صاحبة الدور العالمي، لكن يبدو أنها استنفرت طاقتها كلها في التسليح والقنابل النووية وحسب.

كانت الأبنية على الجانبين تخلو من كل حياة أو فن، فهي أبنية مستطيلة دون شرفات، وأقرب إلى السجون، ويبدو أنها بنيت بطريقة تعتمد على نظرية المساواة الاشتراكية البليدة التي لم تكن تعني إلا إلغاء التمايزات الفردية، وبالتالي أي حالة إبداعية. ولا غرابة في ذلك إن عدنا في ذاكرتنا الى الحزب الشيوعي السوفياتي الذي لم يكن أكثر من معمل كاسات ينتج أفراداً لهم المقاييس والسلوكات ذاتها، تماماً كالكاسات التي ينتجها المعمل، في حالة تفتقر إلى أي بعد إنساني.

ورغم مجيئنا بناء على دعوة من الخارجية الروسية، إلا أن الطريقة التي تم عبرها حجز غرفة لنا في الفندق توحي كأنك تقدم معاملة لمديرية المصالح العقارية في سوريا، إذ استغرق الأمر طوال فترة إقامتنا التي استمرت ثلاثة أيام حتى تم ترتيب الأمر. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كان علينا أن نتدبر أمور طعامنا بأنفسنا، فضلاً عن تحملنا تكاليف السفر كاملة.

مع ذلك، موسكو جميلة فعلاً، لكن الجمال الموجود فيها هو إما هبة من الطبيعة أو من آثار روسيا القيصرية، تماماً كالجمال الموجود في سوريا، فهو إما يعود إلى ما قبل العام 1963 أو أن بركات الطبيعة كانت أقوى من أيدي المخربين.

كانت غايتنا الأساسية من تلبية دعوة القيادة الروسية محاولة فهم موقفها مما يحدث في سوريا، أي فهم هذا الموقف الداعم للنظام، طالما هي قادرة على ضمان مصالحها الاقتصادية والعسكرية إن هي اقتنعت أن مسار التاريخ لن يكون بأي حال من الأحوال مع بقاء النظام السوري.

نعلم أن هناك مخاوف روسية تتعلق بالسياسة الخارجية لسورية الجديدة، ومخاوف تتعلق باحتمال وصول الإسلام السياسي الى الحكم كما يزعمون، وأخرى تتعلق بالفوضى المتوقعة بعد رحيل النظام واحتمال انهيار الدولة، وحسابات أخرى تتعلق بإيران والمنطقة في المجمل، وبناء عليه قدمنا تحليلاً علمياً لهذه المخاوف والحسابات، رغم إدراكنا أن سياسات الدول لا تحكمها النقاشات المنطقية على الدوام.

كرَّر لافروف أمامنا الموقف الروسي، وكأنه يحفظه غيباً، لتشعر وكأنك أمام بلادة وليد المعلم ذاتها، ولم يكن لديه إلا رسالة واحدة هي الحوار بين المعارضة والنظام، بما يذكر بالخطاب ذاته لأركان النظام السوري، وبالطبع دون أية خطوات تتعلق بوقف العنف وإطلاق سراح المعتقلين ومحاسبة الذين مارسوا القتل، والمعنى الضمني لذلك هو الحوار من أجل الحوار للإيحاء بأن ثمة عملية سياسية قد انطلقت، وهنا ربما يكون السبب الرئيس لدعوة أطراف من المعارضة لزيارة موسكو هو رغبة لافروف في التقاط الصور معهم والإيحاء للغرب أن روسيا تمسك بالأمور من جميع زواياها وتلعب دور الوسيط النزيه لحل الأزمة السورية.

في المؤتمر الصحافي تحدث صحافيان من وكالة “نوفوستي”، ظننت للحظات أنهما من “وكالة سانا للأنباء، وكانت أسئلتهما منصبة حول وجود جماعات مسلحة في سوريا. وعند ذلك رأيت أنه من الحكمة أن نقول كلاماً واضحاً وصريحاً، لأن الكلام الديبلوماسي في التعامل مع إعلام شبيه بإعلام النظام السوري سيكون مآله انتقاء بعض الكلمات التي تتوافق مع سياسة الحكومة الروسية والتغاضي عن الكلام الذي لا يعجبهم.

روسيا دولة عظمى تتعامل مع القضية السورية استناداً لمنطق الخوف من فقدان شيء ما تمسكه بأسنانها، وهذه السياسة الخائفة تجعل القادة الروس لا يفكرون، وبالتالي لا يتصرفون سياسياً إلا في دائرة العرقلة أي في الساحة السلبية من الفعل السياسي. ومن هنا تعجز روسيا عن التصرف على أرضية الثقة بالذات عبر تقديم مبادرة إيجابية، أو بالأحرى مبادرتها الخاصة لحل الأزمة، الى درجة تشعرنا بتحول القادة الروس وزراء في حكومة النظام السوري، وهو الأمر الذي يثير القرف لدى قطاع واسع من الشعب السوري من روسيا وسياستها التي اعتمدت على التعطيل في مجلس الأمن والرهان على نظام يتهاوى كاستراتيجية وحيدة. وبالتالي فإن التصرف على أرضية الخوف من فقدان سوريا وحسب، سوف تجعل القادة الروس يخسرون سوريا فعلاً.

هذا الخوف يجري التستر عليه بسياسة تقوم على العناد الغبي والعنجهية الفارغين، تعويضاً عن إهانة وطنية أو هزيمة قومية لا تزال مستمرة. لقد خسرت روسيا أفغانستان، ثم العراق، وبعدهما ليبيا، وستكون سوريا على الطريق إذا ما استمر ذلك الغباء وتلك العنجهية. الغباء الروسي كالغباء السوري، والعنجهية الروسية كالعنجهية السورية في مستوى نظام الحكم، ويصدق عليهم المثل الشعبي “الـغبي لا يصدق حتى يرى”، وعلى ما يبدو فإن قادة روسيا لا يستطيعون النوم إلا وهم خاسرون.

يشعر المرء إزاء تصريح لافروف حول قلق روسيا على الأرثوذكسية في سوريا وكأنه يقف أمام وليد المعلم عندما يتحدث وهو يحاول التشبه بالدول العظمى، فهو يكذب ويعرف أنه يكذب ويعلم أن الآخرين يعرفون أنه يكذب، ومع ذلك يستمر في الكذب. لا يمكن بالتأكيد قبول الخوف على المسيحيين من قبل دولة نعرف كيف تصرفت في الشيشان بحق المسلمين، فضلاً عن ازدرائها واضطهادها الأديان جميعها طوال الحكم الشيوعي، أو من دولة اعتمدت ديموقراطية التبادل بين بوتين وميدفيديف كنظام حكم للدولة الروسية.

نعرف أن الحكومات الغربية تتحسس مصالحها جيداً، ولا تكترث كثيراً لانتهاكات حقوق الإنسان في مناطق مختلفة من العالم، لكن هناك ما يمكن تسميته رأياً عاماً غربياً يضغط على هذه الحكومات في مثل هذه المسائل، أما في روسيا نكاد لا نجد على أجندة نظام الحكم ما يسمى بحقوق الإنسان أو الأخلاقيات الإنسانية العامة، ولذلك ترى القادة الروس لا يكترثون لأرقام الضحايا، أو بالأحرى لا يفهمون لغة الضحايا.

هل سيتغير الموقف الروسي؟ نعم، لكن بعد فوات الأوان، وعندما تقلب الثورة السورية الطاولة على القيادة الروسية، ولا تصبح هناك فائدة ترتجى من موقفهم. إنهم ما زالوا يستندون إلى لغة ميزان القوى التقليدي الذي يتعلق بحسابات الأسلحة والقوة العسكرية وحسب، وهذا أقرب إلى منطق السياسة الميكانيكية التي تتعامل مع موجودات اللحظة الراهنة ولا ترى أبعد منها ولا تهتم بمسار التاريخ والقوى الكامنة. هم ما زالوا بعيدين عن السياسات العظمى التي تعتبر العناصر الكامنة في الواقع جزءاً لا يتجزأ من حسابات ميزان القوى بمفهومه الشامل.

رغم وجود علاقات روسية طيبة مع النظام الحاكم لمدة أكثر من ستين عاماً إلا أننا لا نجد أثراً للثقافة الروسية في المجتمع السوري، اللهم إلا في المركز الثقافي الروسي ورواده من الحزب الشيوعي المحنط، والأخير في كل فروعه وتجلياته كان نسخة مشوهة عن الماركسية “المسفيتة”، على حد تعبير ياسين الحافظ، التي لم تكن سوى أيديولوجيا ضد الفكر والثقافة والحريات والفن والإبداع، في حين تمشي في الشارع السوري وتواجهك دلالات عديدة على أن الروح العامة للشعب السوري تتوافق أو قابلة للتوافق مع الثقافة الغربية في مستويات عديدة، رغم العداء لسياسات أنظمتها. إنه العقم الذي ما زال يخيم على نظام الحكم الروسي، عقم في تصدير الثقافة، وعقم في الأداء السياسي على حد سواء.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى