بعد عامين من الثورة في سوريا: سلامة كيلة
سلامة كيلة
كانت الثورة في سوريا مدار خلاف كبير عكس الثورات في تونس ومصر، حيث تناقضت البديهيات بين أطراف مختلفة، وتعاكست المواقف بينها. وبعد عامين من الثورة مازال الأمر كما كان، وربما زاد الاختلاف ودخلت تقديرات جديدة.
كانت “البديهية” الأولى التي حكمت، والتي هي من ميراث وعي نشأ في “مرحلة التحرر الوطني”، قام على النظر إلى كل القضايا من منظور: الإمبريالية، مع أو ضد. لهذا كان النظام السوري في موقع الضد. بالتالي كان الموقف كارثياً من قبل قطاع كبير ممن يعتقد أنه ضد الإمبريالية لأنه يريد التطور. فوقف ضد إرادة شعب يريد التحرر والعدالة. لقد انطلق من “العالمي” ومن “السياسي” دون أن يتلمس وضع الشعب ذاته.
التشوش حول الثورة زاد بعد أن تسلحت، ثم بعد أن بات الإعلام يُظهر أن القوى الأصولية هي التي تهيمن عليها. فقد نشا تصور بأن الثورة يجب أن تكون “سلمية”، بعد تجارب تونس ومصر. كما ظهر التخوّف من الإسلاميين بعد نجاحهم في الانتخابات في تونس ومصر. وزاد التخوّف بعد دخول “الجهاديين”.
كل ذلك يعبّر عن نظر شكلي يتناول ما يجري من زوايا “مجردة” أو جزئية، أو سطحية. فقبل كل هذه الفذلكات لا بد من وعي البديهيات الحقيقية. التي هي تلمّس للواقع وليس الهيام في تحليلات عامة، وتصورات عمومية.
هل ما يجري هو ثورة؟ وهل السلطة هي ضد الإمبريالية أصلاً، إذا كانت قد وصّفت ذاتها بأنها ممانعة؟ وهل أن الثورة جرى ركوبها من قبل الإسلاميين؟
المسألة الأولى هي أن الشباب الذي تفاعل مع ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين عانى طويلاً من التهميش وانسداد الأفق، كما من الاستبداد الطويل الذي كان يمسخ الشخص، ويؤسس لاغتراب عميق. وهو الذي بدأ الدفع لتحريك الشارع وصنع ثورة. وهو يريد الحرية بالتأكيد لكي يعبّر عن مطامحه. والفئات الاجتماعية التي تحركت أرادت تحقيق مطالب واضحة، وهذا الأمر يستدعي ملاحظة الوضع الاقتصادي الذي تشكّل على الأقل في العقد الأخير.
فإذا كان الاستبداد مستمرا منذ عقود، ولقد ولد هؤلاء الشباب خلال سطوته، فسدّ أمامهم أفق العمل وحرية التعبير، ومسخهم وفق الصورة النمطية التي فرضها، فإن التحوّلات الاقتصادية التي تحققت خلال العقد الأخير جعلت كتلة كبيرة من الشعب في وضع صعب جداً. هذا ما كانت تظهره الأرقام، حتى الرسمية منها، وهو وضع “مثالي” لنشوب الثورة. وهو وضع مشابه في كل الأحوال للوضع في مصر أو تونس أو اليمن أو ليبيا، حيث تتمركز الثروة بيد أقلية عائلية حاكمة، وتعيش كتلة هائلة تحت خط الفقر. وحيث يقل العمل ويتزايد عدد العاطلين عن العمل.
إذن، كانت التحوّلات الاقتصادية التي جرت في ظل سلطة بشار الأسد، ولمصلحة آل مخلوف خصوصاً، تفضي إلى انهيار الوضع الاقتصادي لقطاعات كبيرة من الفئات الوسطى والعمال والفلاحين، وانهيار الوضع المعيشي لها. وهو الوضع الذي جعل احتمالية الثورة كبيرة لكل من كان يدرس الواقع الاقتصادي الذي يتشكل.
لكن هذا الميل كان يجعل محتكري الثروة يميلون للتفاهم مع العالم الرأسمالي، خصوصاً وأن مجمل مردود النهب الداخلي كان يصدّر إلى السوق الرأسمالي. وهو الأمر الذي كان يدفع للتفاهم مع “الإمبريالية” وليس الصراع معها، وهو الأساس الذي جعل مصطلح ممانعة هو المحدِّد لطبيعة هذه السلطة، وهي ذاتها من أطلق هذا التعبير. لقد انتهى عصر التحرر عبر فرض التحرر الاقتصادي وفرض اللبرلة، وبات السعي للاندماج بالنمط الرأسمالي العالمي هو المسيطر.
هذه عملية جرت في مصر خلال أكثر من ثلاثة عقود لكنها تحققت في سوريا خلال عقد. وإذا لم يكن قد تحقق الارتباط بالإمبريالية فيجب البحث في سياسات الإمبريالية وليس في مصالح الفئة الحاكمة التي كانت تجهد من أجل قبولها كتابع.
بالتالي فإن البديهية الأولى تتمثل في أن الشعب ثار لأنه لم يعد يستطيع العيش، ولا يستطيع التعبير عن أزماته. وهي بديهية لأن كل تحليل اقتصادي يوصل إليها دون لبس، لكن النخب فوق الاقتصاد لأنها تتعلق بالسياسة، التي تعني العلاقات بين الدول.
المسألة الأخرى هي أن معرفة السلطة بهذا الوضع، وتلمسها احتمالية انعكاس ما جرى في تونس ومصر والبحرين واليمن وليبيا على سوريا فرض عليها وضع إستراتيجية متكاملة أساسها “الحسم العسكري”، واستخدام أقصى العنف لمنع الشعب من “الانفلات” في ثورة عارمة. هذا “الانفلات” الذي ظهر في عديد من المدن قبل استخدام العنف (حماة مثلاً) أو بعده. لقد عرفت السلطة بأن أي تحرّك شعبي سوف يفضي إلى انفجار كبير يسيطر على الشوارع.
انطلاقاً من ذلك اتخذت الثورة الشكل الذي وصلنا إليه. فرغم أن الشعب ظل متمسكاً بالسلمية ستة أشهر (وهذا ما اعترف به بشار الأسد ونائبه) لم يستطع إلا أن ينتقل إلى استخدام السلاح بعد تصاعد عنف السلطة واستخدام الجيش للسيطرة على المدن، وزيادة دور الشبيحة والأمن، وزيادة القتل.
وهو الأمر الذي فرض أن تصبح الثورة ثورة مسلحة. بمعنى أن استخدام السلاح لم يكن نتاج “ميل طفولي” بل جاء نتيجة عنف دموي وحشي مارسته السلطة ومازالت. وسنشهد في كل الثورات في البلدان العربية هذا الميل حين يتصاعد عنف السلطة، ويظهر الدفاع المستميت من قبل الطبقة المسيطرة لكي تحافظ على سلطتها وتضمن مصالحها.
المسألة الثالثة هي أن قوى متعددة تتصارع للسيطرة على الثورة، وهذا أمر واضح في ثورة انطلقت عفوية. وإذا كان ظهر أن للإسلاميين سطوة فلا يغيّر ذلك من أن الثورة هي ثورة شعب، وكل الثورات جرى الصراع من أجل الهيمنة عليها وتجييرها لمصلحة هذه الفئة أو تلك، لكن كل ذلك لا يغيّر من كونها ثورة. ولا يغيّر من أن السلطة هي سلطة مافياوية عائلية أمنية، وأن نهبها أوجد عملية إفقار كبيرة جعلت هؤلاء المفقرين يتمردون.
ولا شك في أن قوة الإسلاميين تزايدت، لكن الثورة مازالت شعبية، رغم كل ما يصوّره الإعلام ويروج له. بالتالي لن يغيّر من الأمر شيئاً تزايد دور الإسلاميين رغم الخطورة الممكنة التي قد يدفعون البلد نحوها. فالأمر هنا يتأسس على أن الشعب يمرّد لكي يحل مشكلاته، ولن يتوقف قبل حلها. لهذا مهما حاولت القوى الأصولية فلن تستطيع وقف المسار الثوري الذي اختطه.
نعم هناك أعباء يفرضها تزايد دور هؤلاء، وربما أخطار قد يستجلبها، لكن الأمر يتعلق بثورة شعب، وبمصالح طبقات مفقرة. وما دامت الثورة شعبية عفوية وتواجه بكل هذه الدموية، وبغياب اليسار، سوف تفضي إلى ظهور كل هذا الخليط، وسوف تحاول قوى أصولية ركوبها. لكن هذا يعني ذلك تغيّر طابعها كثورة شعب مفقر ضد سلطة ناهبة ومستبدة ومافياوية؟ عادة يكون دور اليسار في هذه الوضعية هو تطوير الثورة ومواجهة كل تلك الميول من أجل أن تنتصر.
المسألة الرابعة هي أن الوضع الدولي يحتاج إلى تحليل جديد، تحليل راهن، ولم يعد يكفي الاتكاء على أفكار قديمة. فقد بدأت “الفقاعات” المالية تتفجر، ولن تقف كما يبدو. لهذا يبدو أن “الستاتيك” الذي تشكل بعد الحرب الثانية، وخصوصاً بعد انهيار الاشتراكية، ونهاية الحرب الباردة قد تفكك، وبتنا في وضع تتراجع فيه القوى الإمبريالية، وتتصارع.
لكن من الواضح أن هذا الوضع كما هو الآن هو في تناقض مع الثورة، ويصبّ في خدمة السلطة. البعض يريد استمرار السلطة ويدافع عنها. والبعض يريد استمرار الصراع لكي تضعف سوريا البلد وتنهار. والبعض يريد التنازع للحصول على مصالح. وكل هؤلاء يقفون ضد الثورة، لأنها ثورة أولاً، ولأنها تناقض ما يريدون ثانياً.
لا أحد يتحدث عن مؤامرة، فالمؤامرة الأساس هي ضد الثورة. وكل التدخلات و”المساعدات” تصبّ في ذلك.
بعد عامين من الثورة، لا بد من تلخيص أنها نتاج وضع داخلي نتج عن سيطرة فئة نهبت واستبدت طيلة عقود، ومن ضمن ذلك تدمير الفعل السياسي والثقافة بشكل عام.
ولهذا كانت ثورة عفوية شعبية بكل معنى الكلمة. وفي هذا الوضع يبدأ التحديد هل نحن مع الشعب أو مع السلطة ولا يبدأ من أي مكان آخر. وبالتالي ما الدور الضروري من أجل انتصار الثورة، وليس لماذا يشارك هذا الطرف أو ذاك، ولماذا هذا أصبح أقوى؟
بعد عامين، يجب أن تسقط كل الفذلكات، وكل الأوهام التي تنطلق من فهم سطحي جداً لمعنى الإمبريالية وتتجاهل أنها بنية اقتصادية تتمثل في سيطرة اللبرلة في الأطراف، وفي تحكم فئة مافياوية في السلطة، تنهب المجتمع وتصدّر المال إلى الخارج. وأن حراك الشعب هو الأساس في أي نظر حقيقي وليس النظم مهما كانت. ومن ثم فإن العالم يتحوّل ولم تعد التحليلات السابقة صحيحة الآن، بل أصبحت من الماضي.
الجزيرة نت