صفحات الثقافة

بعضهم يعملُ قنّاصاً/ مناهل السهوي

 

 

“امْشِ تحت الأشجار، بعيداً عن عين قنّاص، يختبئ في مكان ما”، على وقع كلماته، عبرنا طريقاً في أحد الأحياء على أطراف العاصمة. متلفتة حولي تحت الشجر الواطئ الذي كان يمسّ رؤوسنا بأغصانه، امتلأ شعري بالأوراق اليابسة، التقطت ورقة علقت في شعري ودسستها في جيبي، نظرت خلفي، هناك صف من أشجار أجهل نوعها، وخراب كامل يمتد خلفها، علامات الثقوب في الجدران على هيئة طعنات عميقة، حتى المنازل لها صدور نطلق الرصاص نحوها، يخيل لي أن الموت ليس من أولئك الذين يأبهون لمخاوفنا، فنحن نمضي معه حين يمر وحسب. من اخترع فكرة أن الأشجار تحمينا من الرصاص، كان يظن أن الموت لا ينتبه وهو يتسكع إلى الأشجار، ينتهي العمل الطارئ الذي أرغمني على الاقتراب من أحد المناطق الساخنة، وها نحن نغادر الحيّ ملوحين للفزع وللبنادق التي لم تلمحنا.

وصَفَ صديقي، مرةً، قصيدة لي بقوله: “ضربة قناص”، فكرت طويلاً بعدها بشكل البندقية وطلقات القنص ووجع الأفكار، وهي تتأوه، كلنا قناصون وقتلة في لحظة ما، نلاحق الجسد المتحرك بهدوء ونطلق رصاصة على الرأس مباشرة، إنه لشيء مذهل أن تمارس القتل بكل هذا الهدوء، أتذكّر كم من الأفكار كانت تجول في رأسي، وفي لحظة مثيرة التقطتها، أو ربما اقتنصتها بضربةٍ واحدة، يا للمصطلحات كيف تتحوّل إلى كيمياء أخرى، في حين أنها في مكان قريب جداً لا تعني سوى الموت! الفروق اللغوية ذات تأثير أقل حين نحاول فهم الموت بها، كلها متشابهة وذات وقع يشبه الذعر. منذ ذلك اليوم وكلما صادفت صديقي أخبره بأن لدي طلقات كثيرة ومؤجلة، لم تجد بعد عابراً لتقتله، ربما يكون على دراجة، في باصٍ، أو يمشي وحيداً تحت الأشجار.

“لا تجعلي الأمر فلسفياً” غالباً ما أصحح لنفسي ذلك، لكن هل يمكن أن تتجاهل اللحظات الثرية للموت في طلقة القناص، إنّه حقاً كائن غامض، يمتلك أحياناً مهارات التصويب عن بُعد كيلومترات، لكنه بكافة الأحوال شخص سيئ، أو كما يردد صديقي: القناص هو رجل لا يعرف سوى الموت لكن بهدوء تام. أتابع: البعض يعمل خبازاً، وآخر سائق باص، وآخر قناصاً! ثم أردّد: هل يراقب القناصون سيدات يطهين الطعام لعائلاتهن في العراء، أو عجوزاً يمشي وحفيده عائداً إلى المنزل، وهل يطلقون رصاصاتهم في لحظة ضجر؟ غالباً ما ذكّرني ذلك بأفلام الحرب العالمية الثانية، لا أدري لا بد أن يكون ما يحدث تصويراً متقناً لمخرج فذ، أطلق على أحد أفلامه اسم “القنّاص” وعلى آخر “الطائرة التي التهمت كل شيء”.

في الجانب الآخر من دمشق، الأكثر أماناً، البعيد عن القنص، لكن ليس عن الموت، أفكّر فقط بالأشجار، تلك التي لم تكن يوماً معنية بحربنا، لكنّي وأنا أمشي تحتها، شعرت كما لو أني أجرّها خلفي كطفل طائش، هنا بالضبط، يجب أن تتبوّل، وهنا يجب أن تأكل، وهنا يجب أن تعانقني، هكذا استغرقت كلّ طفولتي فوق أغصان شجرة جوز معمّرة، أتأمل الضوء المهتزّ على جسدي واشمّ رائحة الورق الحادة، تعلمتُ دوماً كيف أتسلق أصعب الأشجار وأطولها وأكثرها تشابكاً، ما عليّ سوى تتبع الغصن، خطوة هنا وخطوة هناك، أشعر فجأة كما لو أني تحولت لغصن. لم أكن حينها أختبئ من شيء مخيف، كنت فقط أودّ أن أعيش عمراً صغيراً على جذع شجرة، لكننا الآن والحرب أمامنا نختبئ تحت الأشجار كمقاتلين يرتدون أغصاناً خضراء للتمويه، ويتنقلون من مكان إلى آخر، وحين يسألوننا ما هذا الذي ترتدونه نقول لهم: كان يجب أن نتعلم كيف تُخفي الأشجار حقيقتها كي لا نموت باكراً.

*شاعرة من سورية

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى