صفحات مميزة

بعض الأبعاد الريفية للثورة السورية: من يسيطر على المدينة يحكم البلد/ أ. د. يوسف سلامة

تثير الأحداث الكبيرة في تاريخ الأمم العقول والأذهان بقصد تفسيرها والكشف عن الـــــرؤية المحــــركة لها. وبقدر ما تكون هذه الأحداث معقدة ومتداخلة وشاملة لعدد هائل من الاهتمامات والمصالح والمتغيرات بقدر ما يشق على المراقب تأويلها والانتهاء إلى رأي يطمئن إلى صحته بصددها.

وهذا الوصف ينطبق على الثورة السورية ضد النظام الاستبدادي في دمشق. فبقدر ما أنها انطلقت من مطالب بسيطة في ظاهرها وبديهية في مغزاها (الحرية والكرامة) فإنها في الوقت نفسه حدث شديد التعقيد يختزل في باطنه جملة التفاعلات والانتصارات والانكسارات والتطلعات والآمال المحبطة طيلة خمسين عاماً من تاريخ سورية الذي اشتركت في صنعه كثير من القوى العالمية والجهات الاقليمية والأطراف الداخلية. وقد كان كل ذلك محكوماً بمناظير متنوعة وشديدة الاختلاف إلى الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها سورية كمحصلة لتصارع كل هذه العناصر وتدافعها من جهة ولتحالفها وتقاربها من جهة أخرى.

ومما يؤسف له أن كثيراً من المحاولات التي قدمت لقراءة الثورة السورية قد اتجهت بصورة مباشرة نحو التأويل الطائفي: طائفة علوية صغيرة استولت على المراكز الأساسية في الأمن والجيش، ومن ثم حكمت البلاد عبر جيلين متتالين وما تزال تطمح أن يمتد حكمها حتى الجيل الثالث، ممتطية حزباً سياسياً هو حزب البعث العربي الاشتراكي. فرض يرى أصحابه أنه مقنع لهم على الأقل ولكننا نميل إلى رؤية أخرى تبتعد عن كل قراءة لاهوتية أو تبسيط طائفي للأحداث.

ينطلق فرضنا في قراءة الثورة السورية من مقولة أخرى مختلفة كل الاختلاف مفادها أن البنية الريفية الصلبة للنظام وهي القوى الأمنية والعسكرية- قد استولت على المدينة السورية وريفتها وحافظت على بنيتها الريفية وتجمعت في صورة عصبية شديدة التماسك في وجه كل من يحاول أن يهدد سلطتها وما ترى أنه حقها الطبيعي في الحكم.

وعندما نتحدث عن المدينة السورية فلا بد من أن نتذكر أن الغالبية الساحقة من سكانها اليوم قد جاؤوا من أصول ريفية، وأن مجرد الإقامة في المدينة لا يكفي لحصول الفرد على اعتراف أهل المدن بأنه قد أصبح واحداً منهم حتى ولو شاء أن يصف نفسه بأنه كذلك.

ومع ذلك لم يكن من بد لهذه البنية الحاكمة من أن تقيم تحالفاً مع بعض شرائح سكان المدن الأصليين مما أدى إلى تركز الثروة والسلطة والتنمية داخل المدينة السورية. فكانت النتيجة الطبيعية لكل ذلك الإفقار المستمر للريف، مما أدخل هذه البنية الحاكمة في تناقض مع قواعدها الشعبية في كل أصقاع الريف السوري.

و تسارع هذا الإفقار ابتداء من عام 2000 واستمر في الفترة التي تلت 2005 نتيجة لعمليات التحرير الاقتصادي التي لم تكن مصحوبة بأي تحرير سياسي بل ولا حتى بإصلاح سياسي شكلي على الرغم من كل المطالبات الشعبية والنخبوية بدرجة من درجات الإصلاح ابتداء من عام 2000 وصاعداً. واستفحل التناقض بعد ذلك عندما فتحت الأسواق السورية للمنتجات الأجنبية وخاصة المنتجات التركية المثيلة التي تنتجها ورش ومصانع صغيرة في الريف السوري. ولم تكن هذه الورش وتلك المصانع قادرة على منافسة البضائع الأجنبية كماً وكيفاً مما أدى إلى تضخم الإحساس بالظلم داخل الريف السوري الذي أفقر مرتين: المرة الأولى بإفقار الفلاحين القائمين على النشاط الزراعي بما حُمِّلوا من نفقات باهظة أدت إلى أن تحولوا إلى ما يشبه الأجراء في مزارعهم، ومرة ثانية عندما أصبحت المنشآت الصناعية الصغيرة في الريف السوري مهددة بالخسائر والإغلاق أمام سيل المنتجات المستوردة والتي تفوق ما تنتجه ورش الريف من حيث الجودة والتكلفة.

و هكذا برز التناقض إلى العلن بين سلطة ريفية حاكمة وبين شرائح ريفية أيضاً متطلعة إلى التحرر من سلطة النظام القائمة في دمشق. وبما أن السلطة متمركزة في المدينة وخاصة في دمشق وحلب فلم يكن بد من وقوع الصدام بين ريف حاكم وريف محكوم، وبالتالي فإن النزاع في حقيقته قد انصب على الهيمنة على المدينة السورية. فمن يحكم المدينة يقرر مصير الوقائع.

هكذا فهم الجميع المعادلة وتراكمت كل الشروط المؤدية إلى انفجار الصراع، وتسلح كل طرف بأيديولوجية خاصة به. تسلح النظام الريفي الحاكم في دمشق بأيديولوجية المقاومة، وقد كانت إيديولوجية مراوغة بالفعل. وتسلح الريف المتطلع إلى السلطة واستخلاص المدينة من أيدي السلطة الحاكمة بأيديولوجية ليبرالية مبسطة تم اختزالها في مفهومين كبيرين هما الحرية والكرامة.

أما المدينة السورية وسكانها الأصليون فقد ظلوا في مجموعهم خارج الثورة، ولكنهم غير مؤيدين للنظام إلا في حدود ضيقة. على أية حال كانوا غير فاعلين في كل هذه الأحداث مع أن النزاع كله يدور حول الاستيلاء على المدينة باعتبارها رمزاً للسلطة. ولعل هذا ما يفسر هجوم الثوار الريفيين على حلب في الشهر السابع 2012 بعد أن فرغ صبرهم وتطلعهم إلى أن تشترك حلب (المدينة الصناعية) في الانتفاضة على النظام. لكن البرجوازية الحلبية في معظمها والبرجوازية الشامية في مجملها ظلتا ترقبان الأحداث ترقباً سلبياً، الأمر الذي جعل عمر الصراع يطول ويتعقد ويخفق أي من الطرفين في حسمه.

لقد كانت البرجوازية السورية تريد للطرفين أن يقتتلا فينتهي أمر السلطة إليها بصورة مجانية. ولكن الحقيقة هي أن تقاعس هذه البرجوازية عن الانخراط الفعلي في الأحداث قد أدى إلى خرابها واضمحلالها والحاق أفدح الخسائر برأس مالها المادي والأهم برأس مالها الرمزي.

و أخيراً نستلفت عناية القارئ إلى أن التحليل السابق الذي انطلقنا فيه من بعض العناصر الاقتصادية لا يعني لدينا أكثر من كونه تعبيراً مكثفاً عن عشرات الأبعاد في الشخصية الإنسانية من غير أن يشير حصراً إلى العناصر المادية وحدها في الحياة. ذلك أن تعبير البشر عن أنفسهم معقد إلى الحد الذي قد يتجلى من خلال عنصر واحد على السطح في حين أنه يخفي داخله مزيجاً شديد التعقيد من العناصر الأخلاقية والدينية والسياسية والاجتماعية وغيرها.

أستاذ الفلسفة- جامعة دمشق

salamahyoussef@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى