بعض المعارضين السوريين نصّب نفسه معياراً للأخلاق والوطنية
غسان المفلح
كشفت الانتفاضة في سوريا عدم وجود فضاء داخلها لجماعة الاخوان المسلمين، أو للفكر اليساري بكل تفرعاته، أو للتيار القومي بكل مثقفيه.
يوميا في الصباح افتح “النت” على صفحة “قضايا” التي يشرف عليها جهاد الزين. وكما قلت أكثر من مرة، إن مقالاته ملغومة دوما بتعدد المعنى، والتأويل فيها متاح إلى تناقضات عديدة، يستطيع القارئ أن يؤوّل فيها ما يشاء، وهذا ضرب من ضروب الفن الكتابي من جهة، وهو أيضا يحمل في ثناياه موقفاً، علينا تقشير كل الطبقات التأويلية منه لنصل إلى المعنى الذي يجعل كاتبا وباحثا مهما كجهاد الزين يعاقب الانتفاضة السورية، دون أن ينشر عنها في صفحته الأثيرة “قضايا” في جريدة “النهار” اللبنانية خلال ثلاثة أشهر وأكثر من عمر الانتفاضة، وكأنها تحدث في بلد بعيد عن لبنان وغريب عنه، ليفتتح هو أول مقال كما أعتقد عن الثورة السورية الشبابية، رغم أن الصفحات الأخرى للجريدة ذاتها، لا تخلو وبشكل شبه يومي من كتابات عن الانتفاضة السورية! وجاء مقاله بعنوان “مثقفو سميراميس: إعادة صناعة معنى الداخل السوري”. هذا المقال ربما ما كان له أن يكتب لولا أن مؤتمر السميراميس، قد عقد تحت سمع وبصر النظام، وهذه رؤية لا تحتاج إلى دليل، مبثوثة في ثنايا المقال، الذي أطرى فيه على المثقفين السوريين الذين دفعوا من حياتهم سجونا وتشردا، واعتبر أنهم الآن يساهمون في إعادة إنتاج المعنى، العلماني الليبرالي المقاوم ومن داخل دمشق للاستبداد، وأنا اختار هذه المناسبة لكي أحاول أن أدخل في معركة وهمية اسمها إعادة صناعة معنى الداخل السوري! أعتقد أنه على الكاتب جهاد الزين الاعتذار من الانتفاضة السورية لأنها كانت مهملة في الصفحة التي يشرف عليها من جريدة “النهار”، مهملة إلى حد الإنكار، والاعتراف بالخطأ فضيلة كما يقال، ولأن الشارع السوري هو الذي يحرج الإعلام باصراره على مطالبه في الحرية والكرامة والدولة الديموقراطية، استطاع هذا الشارع أن يسجل ملحمته الخاصة والخاصة جدا، والتي لا دور فيها للمثقفين في إنتاج معناه الذي خرج من أجله مضحيا بروحه من أجلها، وإذا كان لهم من دور فهو سابق على الذي يحدث الآن. الشارع السوري استطاع أن يكشف ليس فشل النظام بعدما تحول إلى ما يشبه التنظيم العصبوي، بل استطاع أن يكشف عمق الفجوة التي تفصل حركة المعارضة السورية بمثقفيها، عن حركة الشارع، مع العلم أن هنالك كثر من المعارضين ومن المثقفين ودون ذكر للأسماء حاولوا ويحاولون الآن الاندماج النقدي بحركة الثورة، سأقول بالتالي لجهاد الزين ثلاثة أمور:
الأول – كشفت الانتفاضة عن عدم وجود لفضاء جماعة الأخوان المسلمين في داخلها.
والثاني – وأيضا عدم وجود لفضاء الفكر اليساري وكل تفرعاته.
والثالث – عدم وجود للتيار القومي أيضا بكل مثقفيه.
ما كان موجودا هو فضاء ليبرالي تقليدي، وما كان موجودا هو روحية ثورتي تونس ومصر، وما كان موجودا هم مثقفون ذاقوا طعم السجون بصرف النظر عن أيديولوجياتهم، ودفعوا من حياتهم ما دفعوا وهذا كان ولا يزال محط ترحيب هذا الشارع الشاب. حيث هذا يشكل مرجعا لنفس تحرري رافض لهذا الاستبداد العصبوي القاتل. ما كان موجودا رموز وطنية فضلت الانخراط المباشر في العمل الميداني منها من اعتقل ومنها من لايزال متواريا عن الانظار، أما الهياكل التي نتجت في ما بعد الثورة، فكلها هياكل لملاقاة الشارع والوضع السوري عموما، وكان أول هيكل هو مؤتمر انطاليا ثم مؤتمر بروكسل وفي ما بعد مؤتمر سميراميس 1 و 2 وهيئة التنسيق ومؤتمر الانقاذ الذي لم يعقد بعد، وبغض النظر عن ملاحظاتنا على كل هيكل من هذه الهياكل، إلا أننا نستشف في النهاية أن الديموقراطية باتت جزءاً من الفضاء الذي تعيشه المعارضة الآن، وكل ذلك بسبب ثورة الشباب السوري، هذه الثورة التي يحاول العديد تلغيمها، من خلال ثغرات عدة عادية جدا وتحدث في أية ثورة كانت، ولكن أخطر لغم على هذه الثورة، هم دعاة استمرار النظام بشخوصه…هذه قضية خطيرة وخطيرة جدا، هنالك من يرفض الحوار مع معارضين ويقبله مع ماهر الأسد!! بحجة العقلانية والمدنية وخلاف ذلك… من مبررات مشبوهة…
كنت دوما ولا زلت أدافع عن أي رأي داخل المعارضة السورية، بمن فيهم من يريد الحوار مع النظام، ولكن دون أن ينصّب داعي الحوار نفسه معيارا للوطنية والأخلاق، وخاصة إذا كان مكشوفا أكثر من غيره… ولم أسمح لنفسي بالتشكيك بوطنية أحد من هؤلاء المعارضين والناشطين، الحقوقيين المحليين منهم والدوليين، ولكن بعض منهم بدأ يتحدث بصفته معيارا للأخلاق والوطنية يوزع اتهاماته وشهاداته يمينا ويسارا وهو غارق في الفضيحة.
لماذا أكتب ما كتبته في هذا السياق؟ لأن الباحث جهاد الزين يطرق على منضدة من يريد استمرار بشار الأسد في حكم سوريا، ومتفهما هواجسه وخوفه على سوريا… وكأنه قدر شعبنا أن يبقى محكوما من حاكم واحد بقوة الحديد والنار.
واعتقد أن الصديق جهاد الزين سينشر هذا المقال، وهو مشكور أيضا إن لم ينشره، ربما رؤيتي للمقال خاطئة، لكنني أتوخى فعلا فتح حوار على صفحة “قضايا النهار” حول الانتفاضة السورية ومستقبل سوريا…
(كاتب سوري مقيم في الخارج)
النهار