بعض ما تجلّى عن الثورة السورية
علا شيب الدين*
تفتّحت القوة المفكِّرة لدى شعوب “الربيع العربي”، لتعلن ضرورة “قتل الأب” في بلدانها، بالمعنى الذي ذهب إليه مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد، كعملية رمزية من شأنها إحداث قطيعة مع الماضي، وقطع العلاقة النسليّة مع الأصل وإعلان الهوية، والخروج على نظام أبويّ تسلُّطيّ. وقد تجلّى هذا المعنى في شعارات عديدة من مثل: “الشعب يريد إعدام الرئيس”، ليدلِّل على أن “قتل الأب” هنا ربما يعني الانتقال إلى نظام عقلاني، ديموقراطي، أسّه ومنتهاه حرية الإنسان الفرد وكرامته.
قتل الأب السوري
لما كان “الأب”، حافظ الأسد، قد حكم سوريا ردحاً طويلاً من الزمن، وظلَّ بعدما وافته المنية، “حيّاً” يحكم البلاد والعباد من قبره، إن جاز القول، فإن العقل في تفتُّحه الثوري اتجه أول ما اتجه إلى استئصال جذر الآن، أي إلى “قتل الأب” المؤسِّس لنظام لا تزال روحه (روح الأب) حيّة نابضة فيه. قد يكون هذا التحليل تفسيراً للعنة الثوَّار التي انصبَّت على روح الأب كما في شعار: “يلعن روحك يا حافظ”، وتحطيمهم لتماثيله في المدن والبلدات المختلفة، لعل أبرزها، إسقاط تمثاله الضخم وتهاويه على جبينه في وسط مدينة الرقة (أول محافظة محرَّرة بالكامل في سوريا). وقد ترافقت عملية “قتل الأب” مع “الابن”، وفي هذه المرة سيكون الأب، أباً وابناً في آن واحد. إنه ابن حافظ، وأبو حافظ، بشار الأسد الذي ما انفكَّ المحتجّون يلعنون روحه أيضاً في إشارة رمزية إلى فنائه من حياتهم. وما حَرْق صوره وتشويهها والسخرية المستمرة منه إلا تأكيد للرغبة الدفينة في “قتله”، ما يعني، في نهاية المطاف، نزع صفة “الخلود” عن “القائد الخالد”، ونزع “الألوهة” عن العائلة الحاكمة وردِّها لله، لله الأكبر، العالي، والمجرَّد، كما في شعار: “الله أكبر/ عالظالم”. نلحظ المفارقة عينها في ضعضعة الثورة لمفهوم “الرئيس السيِّد”، وما كان ليتحدَّث “السيد” إلى الناس في ساحة الأمويين بتاريخ 11/1/2012، للمرة الأولى مذ تبوّأ الحكم بالوراثة مع مطلع هذا القرن، ومن دون ربطة عنق، مثلاً، لو لم تقوِّض الثورة ثنائية “السيد والعبد” التي جعلت من الإنسان “قرباناً” يفدي “بالروح والدم” الإله أو سيِّد البلاد الأعظم. بهذا يكون الثوار قد مهّدوا السبيل أمام نهوض كل أشكال الحرية، والمدنية. مدنية تعني فصل الله عن الأشخاص، كما فصل الدين والعسكر والحب والكره عن الدولة.
تفتّح الفردية
مع تفتّح القوة المفكِّرة بانصرافها إلى “قتل الأب”، تفتّحت فرديّة تحرِّض على رصد الذات، وتأمّلها، فهي الآن تشعر وتفكر وتتبصّر وترفض وتقبل و… تريد. يبدو أن الصراع مع الأنا العليا الأبويّة، المتسلِّطة، كان أعمق من مجرد صراع ذي طابع مطلبيّ أو حاجاتيّ. فجوهريَّة الصراع هنا اتصلت بمكانة الإنسان وماهيَّة وجوده. إنه صراع غايته تفتيت نظام يساوي بين الناس مساواة سكونيّة، سديميّة، تحوِّل الأفراد إلى قطيع. الجدير ذكره، في هذا المقام، أن الفردية تفتّحت داخل الجماعة، واتفقت مع غاياتها، فانتقلت من الاهتمام بمصيرها الخاص إلى العناية بالمصير العام. فقد كان المرء صامتاً لعقود، وهو بنفسه جاهل، وفي السياسة لا يبالي، بيد أن هذا الانطواء الصامت الطويل الأمد مهّد لنشوب ثورة نيرانها ثنائيَّة الفعل، الحرق والإنارة، فبما أن الحرق فعلُ ترميد لصفحة الماضي، ماضي الاستبداد والفساد والاستعباد، فإن الإنارة فعلُ إشراق يشيع ثقافة التمرّد والاحتجاج التي قد تفضي إلى الديموقراطية، وتؤسِّس حياة حرة كريمة؛ لأن كل تعقّل وكل حياة عقلية ومعقولة تبدو مستحيلة ما لم يتم التسليم أولاً بحق الإنسان في أن يحيا حياة حرة كريمة. ألم يبدأ “الربيع العربي” باحتراق الجسد؟ ألم يكن لجوء محمد البوعزيزي إلى إضرام النيران في جسده، حرقاً وإنارة في آنٍ واحد؟
عَود إلى الملموس
مع الإنارة، هبطت الشعارات الطوباوية المتعالية حول الصمود والتصدي، والمقاومة والممانعة، وحول الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، وحول الحب المقدّس للوطن والأرض والحرية؛ لتتبدّل ماهيّاتها، فتصبح أرضيَّة، واقعيَّة، تلامس حياة المواطن وتعنيه في الصميم. وباتت الشعارات مع الثورة لغة تغيير. تغيير في طرائق التفكير، وأداة لصنع مفاهيم جديدة، وواقع جديد يتخذ من الجدل لا الخطابة وسيلة للتثقيف والتأديب. فالتربية الشكليَّة التي تعلّم أفكاراً اغترابيَّة تشرّد الإنسان عن موطنه، وعن تفاصيل عيشه واهتماماته السياسية، لا بد أن تضمحلَّ لتحلّ محلّها التربية العلميَّة التي تنفذ إلى لبّ الأشياء، وتحاكي الهمّ اليومي، وتشحذ العقل بالتأمّل المنعتق من التفسيرات الوهميّة للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. التنسيقيَّات الميدانية التي وُلدت من رحم الثورة، أو المجموعات والتنظيمات غير الحكومية التي شكَّلت نفسها بنفسها ونظَّمت عملها من أجل إغاثة الفارين من بطش النظام بعدما قُصِفّت بيوتهم ودُمِّرت، أي النازحين من محافظة أو منطقة إلى أخرى، إنْ هي إلا نواة “مجتمع مدني” في طور التشكّل، مجتمع قد يكون له الدور الأكبر في الدولة الديموقراطية مستقبلاً. إذ للمرة الأولى وجد السوريّ نفسه ذلك “الإنسان المدني السياسي بالطبع” الذي تكلم عنه أرسطو قديماً. وخصوصاً بعد اكتظاظ الشوارع بجماعات ثوريَّة من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ الهاتفين للحرية والعدالة، وتحوّل بعض الشابات والشبان إلى نشطاء سياسيين و”صحافيين ميدانيين” ينقلون للعالم ما يجري على الأرض السوريَّة بواسطة هواتف محمولة توثّق الأحداث وتحمِّلها على شبكة الإنترنت في ظل غياب الإعلام الحرّ المستقلّ.
إضاءة المهمَّش
استطاعت الثورة السورية أن تنقل تأثيرها رغم المسافات، إذ هي، على ما يبدو، علّة وحيدة تحتوي في وحدتها جميع الأصول البذريَّة التي منها ينمو ويتطوَّر كل موجود جزئي. فلما كان صحيحاً أن السلطة السوريّة، أي سلطة آل الأسد ورجالاتهم، لم تكن سلطة سياسيَّة، بل كانت دوماً سلطة تعتاش وتعيش من الأزمات، وعليها، وسدِّ الطريق أمام على كلّ انفتاح للجزء على الكل، فالصحيح أيضاً أن ثورة الديموقراطية في سوريا قد أحيت مشاعر المحبة، والتعاضد بين أبناء الشعب الواحد بكل مكوِّناته وأجزائه. تجلّى ذلك مثلاً في شعارات من مثل: “واحد واحد واحد/ الشعب السوري واحد”، أو “يا حماة حمص معاكِ للموت”، أو “يا درعا إدلب معاكِ للموت”. هكذا تأتلف الحياة والمجتمع دائريّاً لا هرميّاً، أفقياً لا شاقوليَّاً. وفي الحركات الدائرية والمتنوِّعة تتوافر جميع الأسباب التي تحيي الروح الفرديّ وتعتقه، وعند تخوم الروح الفردي يتحطَّم صنم الخوف. وما من شك في أن تلاشي الخوف يعني ولوج عصر أفول الدولة الأمنيَّة، وحلول سيادة الشعب (الشعب يريد…). من الحركات الدائرية والمتنوِّعة نفسها تتولّد حركة الذهاب والإياب من المركز إلى الهامش، ومن الهامش إلى المركز. إن حركة الذهاب والإياب تلك من شأنها تحرير الهامش من تسلّط المركز واحتكاريته. هكذا خلقت الثورة في سوريا مناخاً سمح بأن تكون العلاقة بين الهامش والمركز جدليَّة. فقد قطعت مع السلطة البعثية/ الأمنيَّة التي كرّست الأعلى والأدنى طوال عقود، وبنت عليهما تمايزات ظالمة وباطلة جعلت من المركز مقرّاً لحكم “أبديّ” بإذلال الهامش ونهبه وقمعه، لا بل توسيعه وتكريسه. من هنا كان لا بد من إسقاط “الأبد والأبدية” من الأذهان، بتظاهرات محتجَّة أضاءت المهمّش المغيَّب، وأكِّدت أنه: “ما في للأبد/عاشت سوريا ويسقط الأسد”.
إسقاط سوريا الأسد
وتحطيم صنم الدولة المتعالية
أن يكون هدف ثورة السوريين الأول، إسقاط الأسد و”أبديّة” حكمه، يعني إسقاط “سوريا الأسد”، و”دولة الأسد”، تلك الدولة المتعالية، ذات “الهيبة” و”الرهبة” التي قد يعني”النيل” منها الموت، إذ “النيل من هيبة الدولة”، تهمة كان ضحيَّتها كل من عارض وانتقد، أو قدَّم رأياً خارجاً على نص الاستبداد والقهر، وعلى مَر عقود طويلة من حكم الحزب الواحد. حزب البعث المشلول في حضرة الديكتاتور، ثمَّة من سُجِن وعُذِّب، وثمة من قُتِل، وثمة من هُجِّر وشُرِّد أو نُفي، والتهمة الجاهزة كانت دوماً “إضعاف الشعور القومي، والنيل من هيبة الدولة”. فما دولة البعث إلا هيكل رسمي لعقيدة شموليّة غطَّت كل مظاهر الحياة البشرية، عبر جهاز رقابة بوليسي/ استخباراتي، وعبر حصر كل وسائل الدعاية، وكل الوسائل العسكرية، إضافة إلى الرقابة المركزية وتوجيه الاقتصاد بأكمله.
كامتداد للفاشية، كمذهب سياسي خاص في الحكم، يمجّد الدولة، ويدعو إلى حكم أوتوقراطي يرأسه زعيم ديكتاتوري يسيطر على أشكال النشاط القومي كافة، مُجِّدَت دولة البعث في سوريا كـ”وسيلة للأقوياء، وضمانة للضعفاء”، فباتت الدولة كل شيء، والأفراد مجرَّد تابعين، خادمين لها، كعبيد، وطويلاً مورِس العنف والاضطهاد تحت مسمَّى “مصلحة الدولة”. الدولة الكتلة التي كانت دوماً عصيّة على الفصل بين السلطات، والتي ازدرت الشعب، أو لم تعترف بوجوده أصلاً إلا بوصفه أداة كانت حاضرة دوماً في خدمتها. لعل الطابع الرسمي الجاد لـ”المؤسسات” الحكومية، من حيث تسمياتها مثلاً التي اعتنقت ثقافة الموت والحرب، من خلال أسماء الشهداء والمعارك، أو من حيث الشعارات التي أُثقِلَت بلغة بلاغيَّة عظِّمت وقدِّست ومجِّدت. لعل اقتحام الفضاء العام، جملةً وتفصيلاً، بصور الديكتاتور وعائلته، الصور التي كانت دوماً تأخذ شكل المواجهة والمباشرة كما هي عادة “الفن” في كل الأنظمة الديكتاتورية، حيث تكون “المواجهة” وتصوير البُعد الواحد والجانب الواحد أهم خصائصه. ولعل الاشتغال الحقيقي على تصنيع موظَّفين حكوميّين جمعهم الولاء المطلق لسيِّد البلاد، كما جمعهم الفساد والنفعيّة والمصالح الشخصيّة الخاصة والعبوس والتجهّم والجدّية المدروسة في التعاطي مع “المواطنين”، الجدِّية التي عكست موتاً للروح، ولكل ملمح إنسانيّ جمالي وأخلاقي. ناهيكّ بالتمييز ذي الطابع الطبقي، العنصري الازدرائي، والاستعلائي المتعجرف، بين الموظف الحكومي وغير الموظف، وبين البعثي واللابعثي، حتى أن أصغر موظف حكومي في دولة البعث كان دوماً أهم بما لا يُقاس من غير الموظف أو غير البعثي من ذوي الكفاءة والمقدرة والفكر والخلق. لعل ذلك كله، كان الجزء الأعمق في “السياسة” التي رمت إلى تقزيم الإنسان واقعاً ومفهوماً. الإنسان الذي تضاءلت قيمته وصغرت عند البوّابات السوداء الضخمة لأبنية الدولة.
إن العمل الممنهج على جعل الدولة “مطلقة”، وتقدسيها، كمربية فاضلة للأفراد “القاصرين”، نزع عن السوري إنسانيته، وجعله عبداً لكائن متعالٍ غيبي، هو الدولة. مع أن الدولة لا تقوم لها قائمة من دون شعب، قوامه أفراد يعقلون ويفكِّرون ويشعرون ويريدون، بينما الدولة شخص اعتباري لا معنى له من دون الشخص الحّي الحقيقي النابض. هكذا قطعت الثورة السوريّة مع واقع “الدولة أولاً”، بغية التأسيس لواقع جديد ينطلق من “الإنسان أولاً”، فما ثورات “الربيع العربي” إلا ثورات “ولادة الإنسان” بعدما شهدت هذه المنطقة من العالم موت الإنسان كقيمة عليا.
لقد حطّم الشعب الثائر في سوريا، صنم “الدولة المتعالية”، إذ هو “العارف الأكبر”، بأن دولة “الصمود والتصدِّي، والمقاومة والممانعة”، لم تكن يوماً إلا دولة أصفاد كبَّلته طويلاً متصدِّيةً له ومقاوِمةً ضدّه وضدّ حريته وكرامته الإنسانية، وأن دولة الحق والقانون التي تحترم الإنسان وحقوقه، وتقوم على مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وفصل العسكر ذهنيَّاً وسلوكيَّاً عن السياسة، كشأن عام، وفصل الحب والكره عن رئاسة الدولة، بعد حذف الثورة مفردة “مِنْحِبَّكْ” الأمنيَّة من قاموس الرئاسة، تلك الدولة، هي اللائقة بشعب بدأ ثورته بشعار: “الشعب السوري ما بينذلّ”.
إنعاش روح الوجود الأصيل
يعتقد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976) أن الإنسان يمكن أن يحيا وجوده على صورتين مختلفتين، فهو إمّا أن يحيا وجوداً مبتذلاً، تافهاً، لا قلق فيه، وإمّا أن يحيا وجوداً أصيلاً مفعماً بالقلق، يستطيع فيه أن يؤكّد ذاته وأن يصبح نفسه. وقد لا نجانب الصواب في قولنا إن السوري الذي قرَّر الثورة على الوجود المبتذل، التافه، يحيا منذ أواسط آذار 2011، وجوداً أصيلاً مفعماً بالقلق، يثبت فيه قدرته على إسقاط نظرية القمصان السود، وبؤس الرشَّاش والمدفع والدبابة وطائرة الميغ وبرميل TNT المتفجِّر والقنبلة الحارقة والعنقوديّة وصاروخ سكود؛ أمام الإرادة الإنسانية الحرة، أي إرادة الحياة.
* كاتبة سورية