بـربرية
خليل النعيمي
لبربرية السلطة السورية طعم خاص: لها طعم الدفْلى ورائحة البيض الفاسد. إنها بربرية مسعورة، منغلقة على ذاتها، وبلا ضفاف. ‘البربريات التاريخية’ الأولى التي حدثت حينما لا زالت الإنسانية ‘تَحْبو’، كان لهـــا أهداف أخرى تختلف عن جوهر وجودها، وإن كان هذا الوجود متضمَّناً فيها. كانت ذات مقاصد كثيرة تتعدّى حدود كيانها الخاص، مع أن ذلك لا يبررها أبداً.
أما هذه،’البربرية السورية المُتَسَلْبِطة’، فقصدها مبتذل وبائس، لا يتعدّى محاولة إطالة وجودها الخاص الذي لا جدوى من إطالته، وبَسْط سيطرتها القامعة على أكبر مساحة إنسانية ممكنة، ولو تعسُّفاً. إنها همجية متوحِّشة. تخلو، تماماً، من الأبعاد الإنسانية. ولا توحي إلا بالخراب. غايتها التَرْويع والتخضيع. وهي بلا أفق تاريخيّ. ونتيجة ذلك، عنف سلطويّ بلا حدود. عنف يُؤجِّجه حقد المتَسَلْبِطين على مَنْ ثاروا عليهم. وهو حقد كريه لا خلاص منه إلا بالقضاء عليه. ولن يؤدي، في النهاية، إلاّ إلى ‘الكاؤو’، إلاّ إلى الخراب المعمم.
لقد صار الشعب السوري المسالم ضحية صراع جهنميّ مع المتَسَلْبطين عليه، إضافة إلى صراع عميق فيما بينهم. صراع عبثيّ يصطنعه لصوص السلطة، لمجرد أن الشعب يجرؤ على المطالبة بحياة كريمة. ويقومون، بعد ذلك، بابتداع أساليب مخيفة ولا إنسانية لقمع الشعب الأعزل وإرهابه. وكأن الشعب هو المسؤول عن كل سوء. والشعب لا يريد إلا الحرية والسلام. ولكن متى تفهم السلطة الحمقاء هذا، فتكفُّ عن دفع البلاد إلى الهاوية؟
لكأن ‘البرابرة الجُدُد’ لا يدركون أن الترويع والتخضيع لا يعيقان الثورة، وإنما يزيدانها اشتعالاً. وهو ما يشهد على حماقتهم، حماقة هؤلاء ‘البرابرة’ الذين يسوقون بعنفهم الأعمى سلطتهم البغيضة إلى مصيرها المحتوم: العدم. وبالتالي انتصار الثورة.
لكأنهم لا يدركون أن الثورة طاحون. طاحون تطحن الأزمان والمفهومات والأفكار والمشاعر والأشخاص. تعجن الأوضاع والكائنات، وتعيد تشكيلهما، وفق مقتضيات الحياة الجديدة التي لم تكن مألوفة، من قبل. وأن لها سياقاً آخر. سياق يختلف عن سياق العالم القديم الذي ثارت عليه. وهو ما لم يدركه ‘الإصلاحيون’، بعد، حتى اليساريون المعارضون منهم. وما لن تدركه ‘سلطة البرابرة’، هذه، وأزلامها. فهم غاطسون حتى الخَنْق في تَهَوُّلاتهم المرتبكة التي لا زالت تحسب أن العالَم لم يمشِ خمسين عاماً إلى الأمام.
ولذا، فَهُم ما زالوا يتشدقون بالحجج والبراهين البائسة التي يحاولون بها وَأْد الثورة، وتبرير ما يجرمون. وكأنما ‘الفعل الثوري’ مجرد أقوال يُراد بها أقوالاً. مجرد’إنشاء ميت’ يمكن أن يتَّسع، حسب تصوّرهم السكوني للعالم، وعلى طريقتهم السفسطائية في اللَّغْو، إلى ما لا نهاية، لاستيعاب حماقاتهم: حماقات ‘أهل السلطة’ الآيبين، حتماً، إلى الزوال.
وللثورة منطقها الخاص الذي يَجُبُّ ما قبله: ‘منطق التمرُّد’ الذي يجهلونه هم، ونجهله نحن أيضاً قبل أن نثور. لأن الحركة الإجتماعية الإحتجاجية تفرز علامات تعابيرها الخاصة، ودلالات هذه التعابير. وهو ليس منطقاً مادياً فحسب، وإنما هو شديد الحساسية لُغَويّاً، أيضاً. حتى أننا نصير ندرك من عبارات قليلة موقف المتكلم. ونكاد أن نضعه، من كلمات معدودة، في الموضع المناسب له: مُفاوِضاً، أو مُقارِضاً، أومُقايِضاً، أو مُناهِضاً، أو معارِضاً.
هؤلاء، كلهم، نعرفهم من ألسنتهم، ومِمّا تَنْثُرُه من كلمات. فالكلمات تحدد موقــــف مَنْ يقولها. وتَدُلُّنا على موقعه التاريخيّ. تعطيه بُعداً جذرياً، أو بين- بين، أو لا شيء على الإطلاق. أقصد تكشف عن فراغ وجوده التي تعجز (حتى) الكلمات عن ملئه.
إحذروا الكلمات، لأنها تفتح عيوننا على اللامرئيّ. وهذا هو تماماً ما تفعله الثورة.
‘ كاتب سوري يقيم في باريس
القدس العربي