بكاء القلب والعقل على سوريا
محمد عارف
سوري من مدينة حلب، وآخر من حمص في مقابلة تلفزيونية، سألت المذيعة الأول: “سوريا بالنسبة لك شو؟”، أجاب: “سوريا أمي”، سألت الثاني: “سوريا بالنسبة لك شو؟”، قال: “ما بقدر أحكي على أمّه”! هكذا نكات سكان مدينة حمص لا تَبكي، وهذا هو الذي يُبكي. يذهب حمصي لتسجيل اسمه في انتخابات رئيس الجمهورية، يسأله الموظف المسؤول: “انت مجنون شي؟”، يجيب الحمصي: “هو شرط يعني؟… نكات ماكرة تروي بسذاجة يُبكي مرحُها. نكتة عبقرية عن “واحد حمصي أبو وأمو حلبية وساكن بالشام”. وبعد أن كنا نضحك على “الحماصنة” معهم، الآن نبكي معهم عليهم. “حمصي وقع على الدرج، أعطوه مرهماً، وقالوا له ادهَنْ مكان الإصابة، راح دهَنْ الدرج”. وأكثر النكات مكراً تحكي عن توقع الأنواء الجوية عاصفة متجهة نحو حمص، فوضع الحماصنة لافتة في مدخل المدينة مكتوب عليها: “حلب ترحب بكم”!.. ونكتة تفسر تركيز فضائيات “الجزيرة” و”العربية” و”بي بي سي” على حمص: “حماصنة اخترعوا صاروخ والعالم كله خايف ليش؟ لأنو مسمين الصاروخ (وين ما راح يروح)”!
والنكات كما يقول الكاتب الأميركي لويس كروننبرغر “تجرح وتلأم الجروح في آن، تدين وتعفو، تُقلل وتعظِّمُ، إنها توسع النمو الداخلي على حساب المنافع السطحية”. لذلك تُحرِّم الفتنة الطائفية النكات جملة وتفصيلاً. رأيناها في العراق بعد الزلزال الطائفي الذي فجره الغزو الأميركي، تجرح ولا تلأم، تدين ولا تعفو، تقلل ولا تعظم، توسع منافعها السطحية على حساب نموها الداخلي. وها هي أمواج الفتنة الزلزالية تضرب سوريا، وقد تتردد في المنطقة لوقت طويل، فهي كالزلازل الطبيعية تترجع ضرباتها في فوالق تمتد عبر الصفائح الأرضية. هل تنزلق نخبة سوريةٌ مثقفةٌ في الفالق الزلزالي كما انزلقت قبلها نخبة مثقفة عراقية ولم تخرج منه حتى الآن؟ هل يحمل مثقفون مغتربون سوريون إلى بلدهم “البيان السني” والذي وضع طبعته المشهورة “البيان الشيعي” مغتربون عراقيون، بينهم أكاديميون وأطباء حملتهم دبابات الاحتلال إلى “المنطقة الخضراء”؟ وهل ينفع أو يضر طرح هذه الأسئلة الآن للنقاش العلني، أو الأفضل تأجيل ذلك إلى أوقات غير متمذهبة، أم أن الضرر حلّ والوقت فات منذ زمان؟
أسئلة معقدة تتحدّى العقل العربي، وهو ليس العقل كما نعرفه، بل كما عرفه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقال عنه “العقل نور في القلب يفرق به بين الحق والباطل”. تكشف عن ذلك أحدث الأبحاث العلمية الخاصة بالقلب، وعنوانها “للقلب دماغه ووعيه الخاصين به”. تستقصي الدراسة أبحاثاً عدة تكشف أن القلب، خلافاً لما يُعتقدُ، ليس مجرد مضخّة، بل هو نظام بالغ التعقيد ويملك “دماغه” الوظيفي الخاص به. وكشف فرع طبي جديد مختص بأعصاب القلب أن القلب جهاز حسي، ومركز ماهر في استقبال ومعالجة المعلومات. والنظام العصبي للقلب، وبالأحرى “دماغ القلب” يتيح له التعلم، والتذكر، واتخاذ قرارات وظيفية مستقلة عن الشبكة العصبية للدماغ. وكشفت الدراسة أن الإشارات التي يبثها القلب باستمرار إلى الدماغ تؤثر على عمل مراكز الدماغ العليا القائمة بعمليات الإدراك، والتعرف والمعالجة العاطفية للمعلومات. صدرت الدراسة نهاية الشهر الماضي عن “معهد رياضيات القلب” بلندن، وجاء فيها أن للقلب شبكة اتصالات عصبية كثيفة تربطه بالدماغ والجسد، ويطلق المعلومات عبر أقوى مجال كهرومغناطيسي ينفذ إلى كل خلية في الجسد، ويعادل 60 مرة المجال الكهرومغناطيسي الذي ينتجه الدماغ. والمكون المغناطيسي للقلب أقوى خمسة آلاف مرة من المكون المغناطيسي للدماغ، ويمكن رصده من مسافة بضعة أقدام عن الجسد بواسطة أجهزة القياس المغناطيسي.
و”للقلب أسباب لا يدركها العقل”، حسب العالم الفرنسي باسكال. إيقاع الدماغ مثلاً يتزامن مع حركة إيقاع القلب، وكذلك خلال المشاعر المستديمة للحب والإعجاب، وضغط الدم، وإيقاع التنفس، وأنظمة الذبذبة الأخرى التي تتوافق ونبض القلب. وأكثر ما يدهش في الأبحاث اكتشافها أن المعلومات المتعلقة بالوضع العاطفي للشخص تتواصل عبر المجال الكهرومغناطيسي للقلب. إيقاع نبض القلب يتغير بشكل ملحوظ خلال مختلف الانفعالات التي نشعر بها. فالمشاعر السلبية كالغضب، والخيبة ترتبط بإيقاعات قلبية مضطربة وغير منتظمة. وعلى الضد من ذلك تقترن المشاعر الإيجابية كالحب أو الإعجاب بأنماط إيقاعات للقلب ناعمة ومنتظمة ومتناغمة. وبالمقابل تخلق هذه التغيرات في أنماط إيقاعات القلب تغيرات متجاوبة مع تكوين المجال الكهرومغناطيسي الذي يبثه القلب، ويمكن قياسها بتقنيات التحليل الطيفي.
ودلت اختبارات “معهد رياضيات القلب” على أن المعلومات المتصلة بالوضع العاطفي تزيد في وعي الشخص بالآخرين المحيطين وشعوره بهم. وبينت التجارب أن التواصل الاجتماعي بين الناس لا يقتصر على تبادل الإشارات اللغوية والصوتية، أو الإيماءات وتعابير الوجه والحركة الجسدية. والأدلة القائمة حالياً تكشف عن نظام اتصالات ماهر ومؤثر وفعّال يعمل تحت مدركاتنا الواعية. وقد يسهم هذا التفاعل الفعال في ما يحدث من تجاذب أو نفور مغناطيسيين بين الأفراد، ويؤثر أيضاً على التبادل والعلاقات الاجتماعية. وظهر أن مجال القلب يلعب دوراً مهماً في تبادل المعلومات النفسية والجسدية والاجتماعية بين الأفراد، وكذلك بين الجماعات. وخلصت التجارب إلى معرفة أن الجهاز العصبي يعمل كـ”الهوائي”، يلتقط ويستجيب للمجالات الكهرومغناطيسية التي تنتجها قلوب الناس الآخرين.
“أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها”. هذه الآية القرآنية ” تدّل على أمرين، أحدهما أن العقل علم، والثاني أن محله القلب”. قال ذلك قبل نحو ألف عام القاضي أبي الحسن البصري الماوردي في كتابه “أدب الدنيا والدين”. واليوم تُبكي القلبَ العاقلَ نكات حمصية تجرح وتلأم الجروح في آن، تدين وتعفو، تقلل وتعظِّمُ، توسع النمو الداخلي على حساب المنافع السطحية. “حمصي فقير كتير راح على الجامع وبعد صلاة الجمعة سأل الشيخ: شيخنا الجامع مو للكلْ؟ أجاب الشيخ: طبعاً يا ابني. قال الحمصي: شيخنا إذا هيك أنا بدي أبيع حصتي!”. ونكتة عن الأحداث الجارية تقول: “حمصي وقع من بناية خمس طوابق، لما وصل تجمع الناس وسألوا: خير شو صار؟ قال: والله ما بعرف، هلأ وصلت”.
وتحق للحماصنة نكات لا تحق لغيرهم. “عندما يقع برق ورعد يخرج الحماصنة من بيوتهم وهم يضحكون. ليش؟ مستبشرين بالصاعقة وقعت بحلب”. وآخر نكتة تقول: “جمع الحماصنة تبرعات، واشتروا قنبلة نووية ليضربوا حماة. قام الطيار الحمصي وضرب القنبلة بنص حمص. سألوه: ليش ضربت القنبلة بحمص؟ قال: شو احنا دافعين دم قلبنا عالقنبلة لنضربها بحماة”!
“بيكفي ولاّ كمّل؟”… يسأل الحمصي الذي بعث هذه النكات!
الاتحاد