بلا أسلاف وبلا لغة/ محمد دريوس
مثّل عقد الستينيات آخر عهد الأحزاب والقوى السياسية بحرية العمل السياسي كما ينبغي لأحزاب جماهيرية أن تفعل، وذلك بتأثير هزيمة 67 وما تلاها من جنوح في الخطاب السياسي لدى نظامي الحكم في الدولتين الكبريين آنذاك مصر وسوريا، إلى المزيد من التشدّد في وطأة القبضة الأمنية فحُجبت كل الأصوات الحرة المنتقدة ذلك أن (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) ثم جاء عقد السبعينيات ليزيد في البناء الهشّ فجوة ويُخرس آخر الأصوات المثقفة الداعية إلى حماية الحريات الأساسية التي يكفلها الدستور في جميع البلاد، فالأنظمة الثلاثة التي استتب لها ترتيب عسكري النشأة في سوريا ومصر والعراق، على محمول من خطاب قومي نهضوي، بدت وكأنها قد اكتفت من أسباب الصراع الفعلي ـ إذا كان ثمة واحد ـ ولسان حالها يقول: هاقد فعلنا كل ما بوسعنا وانتصرنا كما وعدناكم، فجرت السياسات باتجاه المصالحة مع إسرائيل والانفتاح الاقتصادي في مصر، وإنشاء مشروع جديد بمساندة مشيخات الخليج عنوانه مناهضة المدّ الفارسي بالنسبة للعراق، وبقيت سوريا الدولة الوحيدة التي ـ في الخطاب العام ـ لا تزال تحمل الهمّ القومي كما أسّسه وبشّر به المعلّمون الأول، وتقارع الوحش الامبريالي علناً وتطمح لبناء نموذج مشابه له سرّا.
هذه الأنظمة العسكرية الوليدة وجدت صعوبة في شراء ذمم المثقفين كما فعلت الأنظمة الخليجية حديثة الثروة نظراً لفقرها بالموارد أو لبخل في الخطاب الاشتراكي النزعة الذي يفضّل مصافحة شكر وبطاقة شرف على شيك مصرفي، فرأت أنه من الأفضل ـ على غرار الدول الاشتراكية الشرقية ـ أن تبدأ بتصنيع مثقفيها الخاصين، بقياسات محسوبة الخطاب والكلمة فأنشأت معاهد بحوث وجامعات فكر وفن تنتج صحفيين وكتّاب وفنانين وشعراء متماثلين كأعواد الثقاب إنفاذاً لمقولة الأبوين القائدين.
طلاق
مثّلت هذه الفترة أول طلاق بين المثقف والسلطة ذلك أنها افترقت عنه بالأهداف والوسائل معا، فالأحزاب الأيديولوجية ـ غير الدينية طبعاً ـ تتشكل بأغلبيتها من متعلّمين وأنصاف مثقفين ومثقفين بالرغم من رفعها شعارات الشعبي، فحمّلت هذه الأحزاب السلطة الفتية مسؤولية الهزيمة؛ ثم جاء استكمال القبض على البلدان بما سمي انتصار تشرين التحرير وما استتبعه من تصفية لآخر الأصوات المعارضة فكان الطلاق الثاني الذي لا عودة عنه؛ وانضمّت السلطة السياسية إلى المحرّم الذي لا يجوز المساس به بعدما كانت شريكاً للمثقف في المشروع النهضوي ضد التخلف الديني والاجتماعي، وبعدما كان المثقف يحتمي بالسلطة التي تحمل خطاباً علمانياً من خطر المساءلة عند تناوله قضايا حساسة مثل الدين والحريات الاجتماعية أصبح المثقف لاجئاً لا سلطة له تحميه .
لكن هذا الافتراق لم يدم طويلا، فعاد المثقف مرة أخرى إلى حضن الأنظمة، بعد أحداث 11 أيلول وما عرف بموجة (الإسلاموفوبيا) وإن بشكل خجول غير معترف به من قبل المثقف على الأقل، عاد الاثنان إلى الجلوس في خندق واحد ضد الإسلام الجهادي، الذي تشارك الاثنان في خلقه، السلطة عبر القمع المستمر وسياسات الإفقار والنهب والمثقف عبر التهويل والتقاعس عن فضحه وفضح مموليه، النظام والمثقف مالا إلى إرجاء العتب وعادا ليحاربا معا، حلفاء ضد الإرهاب وكفّ المثقف عن لعب دور نقدي للسلطة السياسية إلا في حدود محسوبة بدقة وأصبح يميل أكثر إلى لعب دور المصلح الاجتماعي، ولا نستطيع أن نخفي القصدية من هذه العودة، فكأن السلطات كافة في كل الأنظمة، الغربية والشرقية، عملت على إعادة جميع القوى المنتجة والتي تحمل وزناً ومن ضمنها المثقف، إلى حظيرتها طائعة، عبر التلويح لها بخطر الجهاديين، من ضمن خططها المائلة إلى تعظيم خطر الأصولية وتبرئة نظم الحكم النهّابة، فحصل مرةً أخرى هذا الوفاق بين المثقف والسلطة، وهذه العودة قد لا تكون مرذولة بالمطلق، إن لم تتضمن تبريراً لنظم الاستبداد، أي أن تكون عودة إلى روح الدولة لا السلطة، روح القانون والعدالة لا الأمن، إلى أن جاءت أحداث الربيع العربي، فوضعت خطاً حاداً بين أحلام الثقافة وأحلام المثقفين وأعادت الجميع إلى هوياتهم الأولى، ما قبل المدنية.
الوشاية والتخوين
شكّلت محاولة خدش المقدسات أو ما عرف مبدئيا بالثالوث المقدّس: الدين، الجنس والسياسة؛ شكّلت الهمّ الأكبر لدى المبدع العربي، بل لربما محاولة الخدش هذه شكّلت مجده الوحيد وعصير تفّاحه، فبينما تخلص المبدع الغربي من محرّماته باكراً وصار ميدانه في مكان آخر لبّه الترفيه أحيانا أو الغوص النفسي العميق والحفر في الأغوار السحيقة، رزح المبدع العربي أكثر تحت سطوة ثالوثه المحرم، تحت ثقل عدد القبلات الحارّة في رواية أو جواز الخلوة بين ممثل وممثلة في فيلم سينمائي،لا بل ازدادت محرّماته شيئاً فشيئاً بتغير الظرف السياسي والاقتصادي وبتغير مواطئ قدم أركان الحكم وارتباطاتهم الخارجية، وما يجب أن يكون ميداناً للإبداع أصبح سجناً جديداً، فانطوت عناوين فرعية كثيرة تحت تلك المختصرات الثلاث، لا تقل عاقبة المساس بها شأناً عن الأساسية، لكن الواقع السياسي يفرض صعوداً أو هبوطاً في سوق تلك القيم، حتى انتهينا إلى مقدّس واحد وحيد هو الدين الإسلامي تتفرع عنه كل الممنوعات الأخرى، فمثلاً احتلّت قضية فلسطين – وربما حتى يومنا هذا – مكاناً مقدساً في الوجدان الشعبي؛ وشكلت هذه القضية مفاوضات السلطة الفلسطينية مع حكومة العدوّ نوعاً من الصدمة المساوية لفعل الخيانة، كما صعدت في فترة الخمسينيات والستينيات قضية اللغة العربية والشعر الجاهلي إلى مصاف التابو ودارت معارك طاحنة على صفحات الجرائد بين دعاة التحديث وبين المحافظين، وصلت إلى حد الوشاية والاتهام بالتخوين وتقويض دعائم الأمة، ثم صارت أسماء القادة محرّمات ثم الفقهاء والمشايخ ثم الجيوش والأجهزة الأمنية ثم بعض المثقفين أنفسهم؛ وسيكون لاحقاً الفعل الوحيد المتاح أمام المبدع هو الموت بفم مطبق ولحسن الحظ لسنا منتجين لأي ماركة الكترونية؛ وإلا لخضنا معارك دامية في سبيل أجيال من (سامسونغ) مثلا أو (الآيفون).
بينما أخذ خدش المحرّم طابعاً استعراضياً ومشوّهاً ومرضياً لدى البعض – نزار قباني على سبيل المثال – ومداعبة خفيفة تكاد لشدة عجرفتها لا ترى كما عند أدونيس مثلا، كانت لدى البعض صارمة ومؤثّرة في العمق وتعمل على تفكيك بنية الدين والنظم البطريركية والتسلط، والأنظمة العربية لم تكن يوما جادّة في ضبط الحريات الاجتماعية الجنسية منها تحديداً، ولا يشكّل المساس بها بالنسبة للسلطة أكثر من مادة للإلهاء، وحتى عندما يتعلق الأمر بالمساس بالنص الديني، تستخدمه بما يخدم سلطتها أكثر، قبولاً أو رفضاً، ولنا في مباراة فتوى قتل سلمان رشدي، بين النظامين السعودي والإيراني أسوةً غير حسنة لكن تفيد المعنى، والمؤلم هو إرجاع كل المحرّمات إلى جذر ديني رغم تباينها في الخطوط العامة، وبالتالي الاصطدام بقيود عمرها أكثر من ألف عام، وبمزاج شعبي ينحو أكثر فأكثر نحو الانغلاق ورفض المختلف، قيود سكّت وتسكّ حاليا من كهنة النفط والإعلام والمرجعية الفقهية، فمن أسخف القضايا حتى أكبرها، الموانع دينية وفقط دينية، سواء في اللباس أو المأكل والمشرب أو الغناء والفنون، أي كل ما يخصّ مفردات الحياة اليومية، ومشكّلات الفرد الإنساني، ما يجعله إنساناً ويمنحه خصوصية، ناهيك عما يجعله مبدعاً أو مفكّراً، وفي هذا اختصار للقيمة البشرية، كأن الإنسان عبارة عن حيوان ديني لا أكثر. من نافل القول إن الدين ليس وحده مصدر المعرفة وربما لا يكون مصدر معرفة على الإطلاق بالمعنى القانوني والحقوقي والمؤسساتي، ليس بعد الآن، خصوصاً بعد الثورة التقنية الهائلة التي نشهد ترتيبات تفجرها، فإذا كنا نبحث عن كلّي القدرة فعلينا بالحلف الأطلسي وإذا كنا نبحث عن كلّي المعرفة فالأفضل أن نعبد google.
فقهاء الموت
بعدما عاش المثقف العربي حالة انعدام الوزن لعقود في ظل سيطرة الجنرالات يعيش الآن حالة أشد من الحيرة، فهو من جانب يميل إلى الانحياز إلى الأكثرية المسحوقة خبزا ودفئا ومستقبلا، أي إلى ما كتب عنه وآمن به طيلة فترة وعيه، وبنفس الوقت يرى كيف تقود الغوغائية ومال الخليج والجهاد المعولم البلاد إلى خراب محتّم، يعرف أن الأنظمة الاستبدادية أنهكت البلاد ومهّدت للغزو الخارجي واستجلاب الأعداء ويدرك أيضا أن موجة الأصولية المتوحشة بلا مشروع غير حزّ الرؤوس وتدمير الغد، فخرج من قمقم الاستبداد ليقع في زجاجة التكفير، يقف حائرا عاريا كمن وُلد بلا أسلاف، بلا منبر نظيف المقصد، بلا سند، لا من قبل سلطة عسكرية الوجه ظالمة الجوهر تستخدم كل المقولات لتضمن بقاءها، لكنها منهكة تكاد لا تحمي نفسها، ولا من ثورات بدأت بأصحابها فأكلتهم وبحقوقها المتحصّلة سابقا فسلّمتها لفقهاء الموت، والأغلب أن يبقى هكذا لسنوات، حتى يُشرف مشروع تصفية الأصولية الإسلامية العالمي على الانتهاء، ويكتفي بتسجيل مشاهداته، كآلة تصوير لا أكثر، حيادية وبلا مشاعر ولا موقف.
(كاتب سوري)
السفير