بلد بعد فوات الأوان/ باسم النبريص
وقد عزفت عن جميع الأماني، الآن تبقّت الأخيرة: هواء إضافي لرئتيك. أيها النائم وكل ثقل السرير على حجابك الحاجز. لأنّ التاريخ، كما الجنس، لا يصلح للتأمّل الفلسفي.
ثمانية أيام بلياليها والوابل يهطل. لمَ لم يترطّب قلبك؟ ألأنك سهرت مع أكاديميين، وساءك وصفُهم الفيتشوي لخلود افتراضي؟ أم لأنك، فور أوبتك، وضعت رأساً دائراً على حجر الوسادة، وقرّعت الهواءَ، حتى وصل الصوت للغرفة الأخرى: ألا يخجلون؟ أيّ خلود بعد كوبرنيك؟
والواقع، أن لا شيء ينقصك في هذه الإسبانيا سوى حياتك، إنه بلدٌ بعد فوات الأوان. مع أنك أبداً لم تعتد حياتك، لا هنا ولا هناك، فخمسون عاماً بعشرين بيتاً لا تكفي لهذه المهمّة. ثاني يوم تعود زميلتك الإسبانية من عملها وتسأل مستبشرة: هل عدت للكتابة بصوت عالٍ؟ ترى بماذا ستردّ عليها؟ أتقول: في شيخوخته، الشاعر محض فأر عجوز؟ وكيف ستفهم وهي “قطة الواقع” الممعنة في الحسيّات؟ (مع الاعتذار بالطبع للحيوان).
لا يا عزيزتي، لقد خسرت أيضاً الشعر في بلادكم. خسرت “مايسترو نشيد الخسارات” هذا، ذاك الذي كلّ ما أعيشه في الحياة، متعلّقٌ بكوّة نورٍ في الغيب لها اسمُه. ولذا ستسمعين في قادم الأيام ما لا يسرّك من أصوات نشاز.
تذهب هي وتستأنف أنت لفّ سجائرك التي بحجم الإبهام. تدخن واحدة منها ويدخّن الزمنُ عمرك. حينما يصعد الدخان إلى السقف وتهبط أنت إلى القبر، سيتلاشى فقط دخانان.
ثم إنه، سيأتي سيأتي، حتى لو بعد خمسين ساعة ومئة قتيل وألف لاجئ ـ لمَ لا يُقصّر طريقَه النعاس؟ لمَ لا يُقصّر طريقه الشعْرُ أيضاً؟ أن تقامر مع مجهول، ذا تعريف تقوله وتعرف أنه فائض.
ومع ذلك، أحياناً تخال الشعر نقطة ضوء في عتمة الوجود وعتمة اللغة معاً. ثم تتراجع وتشكّ في نمطيّة هذه الرؤية، وفي خطرها بالأساس، كونها تجعله ـ حتى من غير قصد ـ يقترب من كهنوت ميتافيزيقي. لا مناص! الشعر يُقتل ويُستباح، مثل السوريين، ما إن تحاول تعريفه.
والأفضل أن تقرأه أو تكتبه، بعيداً عن تأتأة التنظيرات وجمجمة النقد. تقول هذا ثم تصحصح: ألا تستحي أيها الهاذي؟ قم اسق نبتة الشرفة، ولا تُنظّر، فقد ساءَ ما يُنظرّون.
ولكي تنام، كي تمسك بأصابعك العشرين أبديةَ لحظة النعاس الهاربة، ينبغي أن تصلّح الحنفية المعطوبة في المطبخ، وتطلب من جارك المتقاعد برفيكتو، أن يوطّي الراديو في الليل. فلا يمكن العيش مع خروشات لخمسين أسبوعاً قابلة للزيادة، ما دام هو حياً. مع أنك سألته عن حاله أمس، ففاجأك بـ “يكفي، أريد أن أموت”.
وأنت ردّدت: أن تموت، يا برفيكتو، يعني أنك لن تطير أبداً. الموت: شللُ أجنحة. وهذا غير ممتاز لحضرتك. هو لم يفهم، ولا أنت تعوّل من الآن فلاحقاً على فهم الفاهمين.
طوبى لغيرهم: لأنهم يصنعون الملح.
العربي الجديد