بلقنة الشرق الأوسط صارت مسألة وقت
هدى الحسيني
الأسبوع الماضي، وفي كلية فورد للسياسة العامة بجامعة ميتشغان، اعترف هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، الذي يعتبر واحدا من أهم الاستراتيجيين في الولايات المتحدة، بأن بذور الصراع في سوريا زرعها الغرب خلال الحقبة الاستعمارية. قال: «أولا، وقبل كل شيء، سوريا ليست دولة تاريخية.. أنشئت في شكلها الحالي عام 1920، وأعطيت هذا الشكل ليسهل على فرنسا السيطرة عليها. الدولة المجاورة العراق أعطيت أيضا شكلا غريبا ليسهل أيضا على بريطانيا السيطرة عليها». ثم أضاف: «شكل كل دولة صُمم ليجعل من الصعب على أي منهما الهيمنة على المنطقة». في رأي كيسنجر: «سوريا يمكن تقسيمها إلى عدة مناطق، وهذا السيناريو هو النتيجة الأفضل لأميركا. هناك ثلاثة احتمالات: انتصار الأسد.. انتصار السُنّة، أو مخرج آخر بحيث توافق كل الأطراف على التعايش معا، ولكن في مناطق تتمتع بحكم ذاتي، بحيث لا تضطهد الأطراف بعضها بعضا. هذا ما أفضله مخرجا».
عندما بدأت أحداث درعا قبل عامين، وتطورت فجأة وبوحشية إلى رد فعل حكومي دموي، انتشر الحديث عن دولة علوية، رغم أن البداية كانت مجرد عبارات كتبها أولاد على جدران الشوارع تطالب بإسقاط النظام. بعد معركة القصير، ركز النظام السوري على استرجاع حمص، وعاد الحديث بأن التطهير العرقي الذي يمارسه النظام على الساحل السوري سيؤدي إلى إنشاء الدولة العلوية التي يمكن أن تمتد في نهاية المطاف إلى جزء من شمال لبنان والبقاع الغربي وإقليم هاتاي في تركيا، وأن السُنّة العرب غير المرتاحين في غرب العراق قد ينضمون إلى إخوتهم في الردف السوري وشمال لبنان إذا انتصر الثوار. أما الجيب الدرزي فيمكن أن ينشأ في جنوب سوريا بحيث يضم دروز لبنان وسوريا. وحتى في مصر، فإن التوتر السُني – الشيعي يغلي. هذا ما أشارت إليه دراسة أعدها أخيرا المؤرخ غبريال شينمان حيث جاء فيها أن القوى الأوروبية وقبل قرن من الزمن، أعادت رسم حدود المشرق حسب حاجاتها. رحلت هذه القوى، إنما الخريطة بقيت، مع أن المفارقة الكبرى أن هذه الدول وجدت طرقا أفضل لرسم حدودها، في حين أن الدول العربية التي اقتطعت من السلطنة العثمانية مستمرة في حرق وتدمير نفسها.
الغضب الذي تطاير مع «الربيع العربي» كشف الطبيعة الطائفية للمنطقة. الهويات التي كانت مكبوتة ظهرت، الأمر الذي شكل تحديا لوحدة الدول التي كانت تدعي أنها ضمن خطوط جيوسياسية صلبة.
يقول شينمان: «الخريطة السياسية للمنطقة عام 1930 تبدو متطابقة تقريبا للخريطة ذاتها عام 2013، في نظر الغرب أن لهذه الحدود حرمتها وقدسيتها، إلى درجة أن الأميركيين والأوروبيين سفكوا الدماء كي لا تتغير. التدخل الغربي في سوريا قد يكون لهذا الهدف، ومع الثورات الجارية التي تمزق النظام الجديد في الشرق الأوسط، فإن واشنطن، وباريس ولندن وموسكو تبقى متفقة وملتزمة بالدفاع عن الوضع الراهن».
يقول الكاتب: «على أوروبا بالذات أن تنظر إلى تطورها الجيوسياسي للاسترشاد؛ إذ عُرف تاريخ أوروبا الحديثة بظهور تدريجي لدول من قومية واحدة برزت من رماد الإمبراطوريات المتعددة الأعراق، هذه العملية التي اعتمدت حق تقرير المصير أدت في النهاية إلى أطول فترة سلام في تاريخ أوروبا (…) واضعة هذا في الاعتبار بأن على الدول الأوروبية أن لا تقف في طريق (بلقنة الشرق الأوسط)»، خصوصا أن أحد المراقبين المخضرمين قال: «إن أسطورة الدولة العربية القوية والمتماسكة، انتهى عمرها».
يشير الكاتب إلى نهاية السلطنة العثمانية التي ظلت تنازع لمدة قرن تقريبا، نزفت خلاله كل الأراضي، فأقدم الحلفاء على تحويل الشرق الأوسط إلى ما هو عليه الآن، حتى بأسماء اختارها الأوروبيون من العصور الرومانية القديمة (سوريا، ليبيا، فلسطين)، كما أن الأعلام صممها كلها الدبلوماسي البريطاني السير مارك سايكس وكلها يعتمد على أربعة ألوان هي: أسود، وأبيض، وأخضر، وأحمر، تمثل العصور العربية المختلفة: الأموي، والعباسي، والفاطمي، والهاشمي. لكن الحدود لم تفرضها التضاريس أو الديموغرافيا. اتفاقية سايكس – بيكو القائمة على حلف سري فرنسي – بريطاني – روسي أصبحت خريطة الدول اليوم. أبقى الأوروبيون الأكراد (25 مليونا) مفرقين بين أربع دول.. قسموا الشيعة العرب.. تركوا العلويين على طول الساحل في سوريا، وشمال لبنان وجنوب غربي تركيا. توزع الدروز بين إسرائيل اليوم ولبنان وسوريا. لبنان الذي كان مفترضا أن يكون معقل المسيحيين ضم السُنة والشيعة، والدروز والعلويين، أما السُنة العرب الذين يشكلون الكثافة السكانية المهيمنة في المنطقة، فجرى تقسيمهم بين عدة دول، كما عُزلت جيوب من التركمان، والشركس، والآشوريين واليزيديين والكلدان. يتفهم الكاتب تردد الغرب في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وذلك من أجل المحافظة على «الاستقرار العالمي»، رغم أن أوروبا هي نتيجة قرن من الانقسامات، والانشقاقات، وحروب من أجل حق تقرير المصير.
يقول غبريال شينمان: «مبدأ حق تقرير المصير جرى التفكير فيه بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، لكنه لم يتحقق بالكامل، فالنقاط الأربع عشرة التي وضعها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون أشارت بالتحديد، بعد سقوط السلطنة العثمانية، إلى حكم ذاتي لكل الأقليات غير التركية، لكن ذلك لم يتحقق.
إذ إثر سقوط «اتفاقية سيفر» عام 1920 التي أنهت الحرب بين العثمانيين والحلفاء عندما قضت القوات التركية على القوات اليونانية والأرمنية، عادت المفاوضات وجاءت «اتفاقية لوزان» التي أنهت أحلام كردستان الكبرى، وأرمينيا الكبرى ورسمت حدود تركيا اليوم.
لكن كما حصل في أوروبا، فإن خريطة الشرق الأوسط قد تكون على أعتاب تغيرات جذرية كبيرة، ونهضة القومية الكردية تهدد بشكل كبير إعادة رسم حدود منطقة الهلال الخصيب. هناك كردستان العراق، والهدنة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، ثم إن النظام السوري تخلى عن شمال شرقي سوريا الكردي.
يرى الكاتب أن إطاحة نظام صدام حسين، كانت لحظة محورية في الشرق الأوسط الحديث. عاد الحكم الشيعي إلى بغداد للمرة الأولى منذ القرن السابع عشر، والسُنّة العرب في العراق يطالبون بمزيد من الاستقلال عن بغداد.. ثم إن الانتفاضة العربية في «الربيع العربي»، أطلقت العنان للقوميات العرقية والدينية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
يصل الكاتب إلى خلاصة بأن وضع نهاية لنظام سايكس – بيكو لا يعني إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بعيدا عن واشنطن.. إنه مثل بلقنة أوروبا؛ سيكون بطيئا إنما ثابت.. ربما يحتاج إلى عقود، لكن الخطوات الأولى نحو الاستقلال بدأت: عام 2011 انشق جنوب السودان على أسس عرقية ودينية، وسقوط نظام القذافي يهدد بنقل السلطة، كما في السابق، إلى دويلات المدن، وأيقظ الحركة البربرية المكبوتة منذ زمن.
ويضيف أن الأحداث على الأرض ستدفع إلى إنهاء سايكس – بيكو، سواء كان سببها القومية الكردية، أو تراجع العلويين إلى مناطقهم، أو الأخوة بين العرب السُنّة، لكن الشيعة العرب في بغداد، والسُنة العرب في دمشق، والموارنة في بيروت، والعلويين في اللاذقية، والأكراد في أربيل، واليهود في تل أبيب، والسُنة الأتراك في أنقرة، والشيعة الفرس في طهران، سيظلون في تنافس، لكن المخاطر التي تتقلص يمكن أن تؤدي في النهاية إلى منطقة أكثر استقرارا وسلاما.
في العشرينات رسم الحلفاء شكل المنطقة إثر انهيار السلطنة العثمانية، لكن يبقى السؤال عما إذا كانت شعوب المنطقة تقبل بهذا التقسيم. حتى المظاهرات الأخيرة ضد الحكومة التركية انطلقت من ساحة «تقسيم»، بكل ما يحمله الاسم من معنى. كأن شعوب المنطقة لم تعد تقبل بالنظام الذي جاء بعد العثمانيين ويطالبون بحق تقرير المصير. ويبدو أن تلك العملية بدأت خطواتها الأولى، وستمر المنطقة في مخاضات كثيرة قبل أن تبرز الأشكال الجديدة.. إن العملية قد بدأت!
الشرق الأوسط