بلند الحيدري ذاكرة المنفى الشاحبة/ ندى منزلجي
كنا نتدافع وسط حشد كأنه سرب نمل مضطرب في دهاليز محطات قطارات أنفاق لندن المزدحمة في يوم صيفي حار، نحاول أن نجد طريقًا بديلاً إلى مبتغانا بعد أن فوجئنا بإغلاق خط القطار الذي كان يفترض أن يحملنا مباشرة في رحلتنا الطويلة من جنوب لندن إلى شمالها. لكنني استطعت أن أتدبر أمري بين صعود سلم كهربائي ونزول آخر، وأخبر صديقتي ببداية معرفتي به، المعرفة التي كانت وراء قرار القيام برحلة اليوم الأكثر تعقيداً من المتوقع.
لا أدري أي إغراء شكله بالنسبة لي كتاب صغير بغلاف بسيط أبيض بعنوان “أغاني الحارس المتعب”، قلبت صفحاته وعيناي تجريان بافتتان بين القصائد، اشتريته بدون تردد في ما كان باكورة جولاتي للتصيّد الحر في المكتبات، ليصبح ديوان الشعر الأول الذي يمثل اكتشافي الشخصي بدون أي توجيه أو سابق اطلاع ضمن مجموعتي الخاصة الناشئة حديثًا من كتب الكبار، الكتب التي كنت أحضنها بحب تمامًا كما أحضن دميتي ذات الشعر الأحمر والقوام الممشوق.
في تلك الفترة، قبيل الدخول في تمرد المراهقة، كنت أنفذ بإخلاص نصيحة أحد العارفين بوضع خط تحت الكلمات والجمل التي تعجبني في كل كتاب أقرأه لأستفيد منها في مشروعي الأزلي في أن أصبح يومًا كاتبة. ولم تفلت من خطوطي في هذا الديوان سوى كلمات قليلة من قبيل “في، وعندما” وطبعًا علامات الترقيم، لذا، ودرءًا للإحراج كان عليّ بعدها بسنوات أن أقاوم بشدة إغراء أن أطلب من الشاعر البشوش كتابة إهداء متأخر لي على الكتاب الذي أشعل رأسي بالشعر والأسئلة وأرّقني بأسى جميل كان عصيّاً على فهمي، كما ساهم إلى حد بعيد في تعزيز ثقتي بذائقتي في انتقاء الكتب، وذلك خلال لقاء سريع يتيم في بداية التسعينات حين زار اللاذقية مشاركًا في إحدى الأمسيات الثقافية القليلة التي صدق فيها برنامج مهرجان المحبة مع رواده من عشاق الشعر العطاش دومًا.
بلند الحيدري.. .
“لا نأخذ تعرفة الدخول ممن جاء يزور قريبًا أو صديقًا”، قالت موظفة الاستقبال عند مدخل مقبرة “هاي غيت”، وهي تمد إليّ خريطة المكان مشيرة إلى مثوى بلند الحيدري الذي طلبت مساعدتها في العثورعليه وسط متاهة من البيوت الضيقة، قالتها بترحاب كأنما أسعدها أن تجد من يأتي خصيصًا ليؤنس أحد النزلاء الوحيدين الذين هم في عهدتها. إلّا أن الأمر لم يكن بالسهولة التي ترسمها ورقة وسط غابة من الأشجار والنباتات وشواهد القبور القوطية والمدافن المزينة بأعمال فنية غريبة تشكل الجزء الشرقي من هذه المقبرة الهائلة التي أنشئت عام 1839 وتعد من أشهر معالم لندن التاريخية، فهي تضم رفات كوكبة من أهم شخصيات القرن التاسع عشر وصولاً إلى اليوم، من نحاتين وموسيقيين ورسامين وعلماء وكتّاب وشعراء ورجالات اليسار وسليلي العائلة المالكة، لعل أشهرهم على الإطلاق كارل ماركس الذي يجتذب مدفنه آلاف السياح سنويًا من أنحاء العالم، ومنهم الروائية الإشكالية ماري آن إيفانس التي عرفها العالم باسم جورج إليوت، والنحات إدوار هوديجز بيلي صاحب تمثال الأدميرال نيلسون الشهير المنتصب في ميدان الطرف الأغر (ترافلغير سكوير)، ووليام فرايز غرين رائد التصوير السينمائي. لكننا في النهاية عثرنا عليه حيث لم نتوقع، في ركن مكشوف للشمس مقابل مدفن كارل ماركس تقريباً.
عشرون عامًا لعلها كافية في عُرف لندن، التي عاش فيها نحو 15 عامًا وأصدر مجلة وعمل في الصحافة وكتب وعرف الكثير من الصداقات، منذ بداية الثمانينات إلى أن وافته المنية في مستشفى رويال برومتون في السادس من أغسطس/ آب عام 1996، كي تنساه، أو بالأحرى كي ينساه المنفيون مثله من سكانها، أو هكذا يقول قبره الرخامي الرمادي العاري في الذكرى العشرين لرحيله من وردة واحدة أو شمعة أو أنفاس محب، وكذا يقترح الغياب المطبق لأي احتفالية في منفاه الأخير، بشعره وذكراه، أو أمسية تكون بمثابة تحية لروحه الشاعرة الشفيفة.
إنها شهادته الصارخة، التي ما عاد ممكناً تخفيفها في لعبة الإحالة إلى المجاز، على غربة بحجم حياة وحرمان بحجم وطن، منقوشة على السطح الرخامي.
عشرون عاماً من المدهش أن تكون كافية ليمعن بعض الذين كتبوا عنه في سياق معلومات مغلوطة برغم أولويتها التي لا تحتمل الشك، مثل مكان مولده، الذي تارة يذكر في السليمانية وأخرى في بغداد، ومكان وفاته ومستقره الأخير، الذي يحلو للبعض أن يعتبره في نيويورك ذاكراً اسم مستشفى هناك. ولنا أن نتخيل بتعميم الحالة كيف بمرور الزمن يمكن أن تلتوي الوقائع وتتلاشى الحقائق رويدًا رويدًا كالأطياف.
بلند الحيدري، الشاعر العراقي الكردي الكبير، الذي ولد عام 1926 (لم أستطع التحقق من المكان) ونشأ في بغداد، عربي اللغة، ثقافة ومنجزاً، أحد أهم رواد الشعر العربي الحديث إلى جانب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، الشاعر المشغول بالتضاد، المسكون باغتراب أعمق من المكان، الوجودي الرقيق، والواقعي القاسي، ابن الحياة التي تعلّم منها مباشرة بدون وسيط، عاشقها الملتجئ من خيباتها إلى المطلق في الموت، الأمين في انحيازه إلى الحرية والإنسان والعراق وطنًا ديمقراطيًا حاضنًا وشاملاً، ما أجبره على أن يمضي ثلاثين عامًا متنقلاً بين المنافي، المجدد والمتعدد في اهتماماته بين الشعر والدراسات والفن التشكيلي والصحافة.
لعلني قلت كل ذلك وأنا أقف أمام بيته الذي سكنه لسنوات مع زوجته ورفيقة عمره دلال المفتي، الراحلة أيضاً، والواقع في درب هادئ مسدود بالقرب من ضاحية إيلينغ، غرب لندن، على حواف حديقة كليفلاند بارك. ولعل الشاب الذي فتح لي الباب استفزته زيارتي غير المبررة، وأسئلتي غير المتوقعة، فأجاب بأنه غير معني البتة بأن يكون مسكنه الحالي كان في الأساس بيت شاعر كبير.
تغيّر تقريبًا كل شيء، الحديقة الصغيرة التي كانت أم عمر (دلال المفتي) تزرعها بالزهور وتزينها بمنحوتاتها أصبحت دغلًا مهملًا، ونما العلّيق بحيث كاد يسد الباب الخشبي الصغير، موحياً بأن المكان مهجور. لم يبق من آثار الماضي سوى تمثال صغير قابع في زاوية خلف مهملات شتّى وتعليقة من الزجاج الملون والنحاس على السور. وحين سمحت سيدة البيت الأكثر تعاطفًا ورغبة في الحديث بإلقاء نظرة على الداخل، تبدّى عاديًا مبتذلًا حيث كان سابقاً الفن والأناقة صنوان، انمحت الصور والأصوات، وبدا أن القصائد لم تهوّم يوماً هنا. لا أثر للوحات التي كانت تملأ الجدران، ولا كأن البيت المؤلف من ثلاث غرف وصالة بطراز “تاون هاوس”، الذي تعاقب عليه المستأجرون، كان ملتقى النخب ومرتع النقاشات وسط حميمية وحسن ضيافة معروفين عن بلند الحيدري وزوجته.
لكنني أكاد أجزم، لو أن طيفه لا يزال بطريقة ما هنا، ولو أنه ألقى بنظرة من نافذة مكتبه الصغير في الطابق الأعلى حيث اعتاد أن يمضي الساعات المبكرة من الصباح في الكتابة يومياً، لما هاله ربما خراب آثاره ولا مآل بيته، ولا أضناه أن يضيع من ذاكرة مكان لم يشكل من منظوره إلّا منفى مؤقتاً في الوقت الضائع بعيداً عن العراق المنشود، هو المغرق في الجرح والمستشرف الأبدي لموت قادم، الأوديبي المطعون برياء العالم.
إلّا أن آثار بلند الإنسان لم تمحى كلها من هنا، ففي البيت الملاصق ثمة من يذكره بكثير من الحنو، من يحتفظ بآنيتين خزفيتين صغيرتين جلبهما مرة آل الحيدري لجيرانهم هدية من أرض العراق، من يتقصد دائمًا استعمالهما وفاءً وفخراً. السيدة الإنكليزية جميلة المحيا رغم سنواتها التي تعدت الثمانين وابنها الأربعيني الدمث اللطيف. كان السؤال عن جيرانهم القدامى الراحلين كافيًا للترحيب ولحديث ممتع عن ذكريات الماضي. الجار الذي كان استثنائيًا، محدثاً، ضاحكاً، اجتماعياً لطيفاً، يحتضن بيته الخلان والأصحاب وأهم الشخصيات العراقية السياسية والثقافية وتشتعل فيه النقاشات، لكنه غير ملم بالأمور المنزلية العملية من تصليح وتركيب، كما يقول الابن. أشرق وجه الأم وهي تريني تذكارها الخزفي الثمين. كان جلياً من تفاصيل البيت المنتمي الى الطبقة الوسطى المثقفة المهتمة بالفن أن العائلتين لديهما الكثير مما تشاركتاه. لكن أيًا منهما لم يكن لديه جواب عن مصير إرث بلند ودلال من الكتب والأعمال الفنية.
على بعد أمتار من المنزل يوجد البار الإنكليزي التقليدي “ديوك أوف كينت”، في شارع “سكوتش كومون”، حيث كان الملتقى الأثير للزوجين مع الأصدقاء حول الطاولة المستديرة عند النافذة المطلة على الحديقة، أو في الحديقة البديعة نفسها حين يتعطف الطقس اللندني. وإن كانت أعمار النُدُل الشباب لا تسمح بأن يكونوا عرفوا الحيدري، فأي أثر تركه بلند في ذاكرة المكان نفسه الذي لم يتعرض لتغيير يذكر طيلة تلك السنوات؟ أي لمحات يحتفظ بها عن شاعرغريب مر من هنا كما مر مئات وسيمرون؟ ربما لا شيء.
لكن الشاعر في المقابل مرّ مشغولًا بقلقه الخاص وهواجسه الذاتية، غيرعابئ على الأغلب بحجم بصمته في ذاكرة المنفى بقدر ما كان مشغولاً باكتشاف نفسه عبر حالة النفي ذاتها في الشعر، وبالمنفى ليس كمكان معين “فكل فجوج الأرض سواء”، إنما كمسوغ لشعور متعاظم بالاغتراب، ومتكئ لحزن يتناقض مع حياة عائلية رائقة وعلاقات اجتماعية غنية ليستشرس كذئب جريح في قصائده. المنفى الذي خصه بديوانه الأخير “دروب في المنفى” (1996): “يا أنت المبحر،/ يا أنت المبحر،/ يا أنت المتسائل عن ظل لك في شيء من أرض/ لا تطبق جفنيك حياء من موتك/ مرمياً في قارعة الدرب/ هنا… في لندن أو في بغداد أو في أي دروب عمياء/ لا تطبق جفنيك حياء/ كل فجاج الأرض سواء”.
العربي الجديد